أكذب لو قلت إنني اقتنعت بالأسباب التي أعلنت لشرح مسوغات الدور المصري الجديد في غزة. ولا اخفي أن الأمر أوقعني في حيرة شديدة، انضافت إليها درجة عالية من القلق حين وقعت على أصداء المبادرة في إسرائيل، قدمت لها قراءة مغايرة، ومسوغات مختلفة تماماً. (1) في محاولة شرح وجهة النظر المصرية بشأن المبادرة، استهل الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام مقاله المنشور في 7/6 بقوله أن "تساؤلات كثيرة" أثيرت حول التحركات المصرية الأخيرة بشأن القضية الفلسطينية. وإذ جاء المقال محاولة لتوضيح طبيعة تلك التحركات، وهو ما فعله غير واحد من القيادات الصحفية المصرية، فقد أدركت أنني لم اكن وحيداً في تلك الحيرة. وقد لفت انتباهي في هذا الصدد أن بعض الكتاب الإسرائيليين كانت لهم استفهامات موازية - الوف بن في "هاآرتس" (1/6) وبن كاسبيت في "معاريف" (8/6) - والأول أبدى استغرابه من التحول الحاصل في علاقات القاهرة وتل أبيب في وقت يعاني فيه شارون من دوامة الأزمات المستمرة، والثاني لم يخف دهشته وتساءل: هل الحاصل حقيقة أم خيال؟، وأعرب عن حيرته إزاء تفاوت الانطباعات بشأن المبادرة، خصوصاً ما لاحظه من المسئولين في مكتب رئيس الوزراء ارييل شارون "يرقصون فرحاً، ويتحدثون عن عهد جديد"، على حد تعبيره. تشترك تلك الرؤى في كونها فوجئت بالتحرك المصري الذي اربك تقديراتها وحساباتها. لكنها تختلف في غير ذلك، خصوصاً في طبيعة وأسباب المفاجأة. وحيث أنني لا املك صلاحية التعبير عن غيري في التعامل مع الموضوع، فان ما اعبر عنه هنا لا يعدو أن يكون وجهة نظر شخصية، تعكس قراءة للحدث من إحدى زواياه. ذلك أنني أحد الذين يدركون أن مصر التاريخية تعاملت مع الملف الفلسطيني من موقع مشرف بامتياز، حيث اعتبرت أن إسرائيل المتوحشة - التي يعد شارون من ابرز تجلياتها - تمثل خطراً مزدوجاً، على الأمن الوطني المصري من ناحية، والأمن القومي العربي من ناحية ثانية. والأول يمثل تهديداً مباشراً لمصر الدولة والكيان، والثاني يعد تهديداً للمسئولية التي فرضتها استحقاقات مصر الكبيرة والقائدة في المنطقة. ثم انه بمعايير المصلحة المباشرة فان التفكير الاستراتيجي المصري ظل واعياً طول الوقت بحقيقة أن الذين أرادوا حصار مصر وتكبيلها سلكوا في ذلك دروباً شتى، كان من بينها التربص بها والضغط عليها في جهتين، من شمالها في فلسطين ومن جنوبها في السودان. وهو المخطط الذي ما زالت حلقاته تتوالى، وخطاه تمضي حثيثاً، وقد حقق حتى الآن - لنعترف - إنجازات معتبرة. ولا اعرف أن كان ذلك يحتاج إلى إثبات أم لا، لكنني أحيل من يساوره أي شك في طبيعة ذلك المخطط إلى الكتاب الوثيقة الذي عرضت خلاصة له خلال الأسبوعين الماضيين، وألفه بالعبرية ضابط إسرائيلي (موشي فرجي) ممن عملوا في جنوب السودان، وشرح فيه بتفصيل مدهش لماذا ذهبت إسرائيل إلى أفريقيا - فور تمكينها من اغتصاب فلسطين - وعملت طوال أربعة عقود على اختراق جنوب السودان للتأثير على سياسات شماله، بهدف إضعاف مصر والضغط عليها. في ظل هذا التصور كان التعامل المصري مع الموضوع الفلسطيني ينطلق من إدراك واع على مستوى التحدي المطروح، وضع المصلحة الوطنية مع المصلحة القومية العربية على قدم المساواة، بصرف النظر عن النجاحات أو الاخفاقات التي وقعت على هذا الصعيد أو ذاك. وقد يرى المرء ظلاً لذلك الإدراك في ثنايا الشروحات التي قدمت لمقاصد التحرك المصري. لكن الحيرة والقلق يستوليان على المشهد حين يجد المرء أن الخطاب الإسرائيلي - السياسي والإعلامي - لا يرى لمصر سوى دوراً أمنياً في غزة، يتوازى مع دور أمني آخر للأردن يجري الترتيب له في الضفة الغربية. وإذا قيل أن مقاصد التحرك المصري حقيقية، ولكن حصارها في الشق الأمني وحده مجرد أمنية إسرائيلية، فان ذلك القول ينبغي أن يستقبل بحذر بالغ، لان العبرة ليست بالنوايا ولكنها بتوازنات القوى وطبيعة الحقائق الماثلة على الأرض. وفي خبراتنا الكثير من التجارب والمشاهد التي بدأت بكلام طيب ومقبول، وانتهت إلى نقيض ذلك تماماً. ابرز نموذج على ذلك أن الكلام الذي قاله الرئيس السادات في خطبته التي ألقاها في الكنيسيت الإسرائيلي عام 1977 اختلف كثيراً عن الكلام الذي وقع عليه في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978. (2) إننا لا نستطيع أن نتجاهل ما يقال في إسرائيل عن "المبادرة" المطروحة، ليس فقط لأنه يريد أن يختزل الدور القومي لمصر الكبيرة في مجرد القيام بدور أمني محدود في قطاع غزة، ولكن أيضاً لان وجهة النظر هذه هي الشائعة في الإعلام الغربي - الأمريكي بوجه أخص - وهي التي أصبحت محل مناقشة وجدل في اغلب الصحف العربية. ومن أسف أن ثمة كتابات مصرية قدمت حيثيات للتحرك المصري شوهته واساءت اليه، حتى بدت أقرب إلى النظر الإسرائيلي والأمريكي، بأكثر من تعبيرها عن الرؤية الاستراتيجية المصرية، ناهيك عن وجدان وضمير الشعب المصري. واستأذن في تحرير هذه النقطة الأخيرة، لأنها بالنسبة لي على الأقل كانت مصدراً للحزن الشديد. فقد كتب الدكتور عبد المنعم سعيد في 9/6 مقالاً حمل شعار "مركز الدراسات الاستراتيجية" في الأهرام انطلق فيه من الدفاع عن التحرك المصري، ذكر فيه مسوغات عدة من بينها ما يلي: @ أن تسوية الصراع لا يراد لها أن تصل إلى حل يقوم على دولتين مستقلتين فحسب، وإنما من المهم أن تتعايشا سوياً. وهذا التعايش يقوم على أسس عدة أولها - في تقديره - يتمثل في تفهم الاحتياجات الأمنية (؟!)، ثم بعد ذلك أورد بناء المؤسسات الشرعية والمصالح المشتركة. @ انه حذر من تنامي الإرهاب الراديكالي على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، في مساواة مدهشة بين القتيل والقاتل والضحية والجلاد. كما انه وضع في سلة واحدة الفلسطينيين الذين يفدون وطنهم بأرواحهم، مع المتطرفين الآخرين الذين قاموا بعمليات إرهابية في المغرب، وتلك لعمري مساواة أخرى ظالمة وتفتقد إلى العدالة والإنصاف، حيث لا ينبغي، ولا يجوز أن يوضع الذين يدافعون عن أوطانهم في كفة واحدة مع الذين يعملون على زعزعة الاستقرار في بلادهم. @ في سياق هجومه على المقاومة الفلسطينية، ذكر أن منهجها "أدى إلى ضياع كل المكاسب التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين". وهذا تقييم ظالم آخر، لان "المكاسب" التي تحدث عنها وهمية وليست حقيقية، فضلاً عن أن تلك المقاومة المفترى عليها هي التي حالت دون إماتة القضية الفلسطينية وتضييعها، وهي التي أجبرت شارون على اتخاذ قراره بالانسحاب أحادي الجانب من غزة، وهي التي أشهرت فشل الحل العسكري الإسرائيلي للقضية، واضطرت إسرائيل في النهاية إلى محاولة الاحتماء منها وراء السور الذي يجري بناؤه الآن. بل هي التي دفعت بعض الشخصيات الاسرائيلية البارزة الى التشكيك في احتمالات نجاح المشروع الصهيوني برمته. @ انه أكد مسألة محاصرة الدور المصري في المسألة الأمنية، حيث ذكر أن هدف التحرك هو استعادة الدور الفلسطيني وإعادة بنائه داخلياً "من خلال إعادة بناء مؤسساته الأمنية والسياسية مرة أخرى، وخارجياً من خلال مد الجسور بينه و بين كل من الولاياتالمتحدة وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة، بعد أن كان قد فقدها تماماً". وهو طرح يستدعي سؤالاً كبيراً هو: هل هذه حقاً حدود دور مصر الكبيرة، أن تنهض بالدور الأمني في غزة، وتتولى الوساطة بين الفلسطينيين والغرب؟ (3) إذ يحزننا هذا الكلام، فان الآتي من إسرائيل يدعونا إلى الحذر والارتياب، وللعلم فان رئيس الوزراء صاحب خطة الانسحاب من غزة يواجه عاصفة من المشاكل القانونية والسياسية في بلاده، تهدده بفقدان منصبه في أي وقت، حتى أن الوف بن معلق صحيفة "هاآرتس" في مقاله الذي سبقت الإشارة إليه، اعتبر أن التحرك المصري قد يكون بمثابة طوق نجاة لشارون. وللعلم أيضاً فان مسألة الانسحاب الإسرائيلي من غزة مشكوك في صدقيتها لأسباب عدة، أولها أن الانسحاب المفترض مقدر له أن يبدأ بعد تسعة اشهر، أي في شهر مارس القادم، في حين أن الإجراءات الأمنية المقترحة على الفلسطينيين يرجى لها أن تبدأ في الشهر القادم. وثانيها أن الانسحاب وإخلاء المستوطنات سوف يتم على مراحل، بحيث يجري التصويت في الكنيسيت على كل مرحلة. من ثم فقد توافق الأغلبية أو لا توافق على أي خطوة مقترحة، الأمر الذي يضع المسألة في مهب الريح. وثالثها أن الانسحاب الإسرائيلي ليس تاماً فلن تخلى كل المستوطنات وإنما سيتم الاحتفاظ ببعضها لاعتبارات "أمنية". ثم أن إسرائيل ستظل مهيمنة على كل مداخل القطاع ومخارجه، في الأرض والبحر والجو. الأمر الذي يحول الانسحاب إلى غطاء لعملية "إعادة الانتشار"، التي تبعد قوات الاحتلال عن الاحتكاك بالفلسطينيين الذين سببوا لهم إزعاجا لم يحتملوه، وبحيث تتولى قوات الأمن في القطاع حماية ظهر الإسرائيليين. أن مصر تريد للانسحاب من غزة أن يكون إحدى حلقات تنفيذ خريطة الطريق، كما أشارت التحليلات التي نشرتها الصحف المصرية. وهذا صحيح، لكن المشكلة أن إسرائيل لم تقبل بذلك، رغم أنها وضعت 14 تحفظاً على خريطة الطريق، فرغتها من مضمونها تقريباً. فقد نقلت صحيفة "هاآرتس" (في 6/6) على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله "في حال تنفيذ خطة فك الارتباط (في غزة) فان إسرائيل لن تنفذ أي خطة أخرى تجاه الفلسطينيين خلال الخمسين عاماً المقبلة". في تفسير التحرك المصري، ادعى المسئولون الإسرائيليون أن الدافع الأساسي له هو قلق القاهرة من تنامي قوة حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وتحولها مستقبلاً إلى مركز للحركات الإسلامية في المنطقة (البعض قال انها قد تتحول إلى طالبان فلسطينية!). وحكاية قلق القاهرة من تنامي النفوذ الإسلامي رددها صراحة الجنرال اهارون فركش رئيس شعبة المخابرات العسكرية (الإذاعة الإسرائيلية 6/6) والجنرال افي ديختر قائد المخابرات الداخلية (القناة الأولى للتليفزيون الإسرائيلي في 5/6)، وتحدث عنها تسفي بارئيل في صحيفة "هاآرتس" (عدد 6/6). التسريبات في غزة مضت في ذات الاتجاه، حيث يتردد انه من بين الترتيبات التي طرحت استعدادا للوضع المستجد اقتراح - مطلب أن شئت الدقة - بإجراء تعديل في رئاسة الأجهزة الأمنية، بحيث يتولاها مسئولون اكثر تشدداً وقدرة على كبح وإسكات حركات المقاومة الفلسطينية. وقيل في هذا الصدد أن ثمة اقتراحاً محدداً يقضي باستبدال اللواء عبدالرزاق المجايدة مدير عام الأمن الوطني الحالي بموسى عرفات مدير الاستخبارات العسكرية في السلطة، على اعتبار أن شخصية المجايدة لينة وضعيفة ولا تميل إلى الحسم، في حين أن موسى عرفات اكثر حزماً واقدر على تنفيذ السياسة الأمنية الجديدة. وهو ما وافق عليه الرئيس عرفات، ولكن الاقتراح رفض بشدة حين عرض على قيادات حركة فتح وبعض أعضاء لجنتها المركزية، حيث المعروف أن علاقات موسى عرفات مع حركة فتح تتسم بالتوتر الشديد (وهي أسوأ بالنسبة لحماس والجهاد الإسلامي). وفي التمهيد للترتيبات الأمنية المقترحة، رشح اسم العميد داود نايفة مدير العمليات في الأمن الوطني بدلاً من المجايدة، وهو اقتراح قد يرفض كسابقه للأسباب ذاتها. غير أن اكثر ما يعنينا في هذا المشهد أن القضية المطروحة إسرائيلياً - وفلسطينياً أيضاً - أصبحت محصورة في الإجراءات الواجب اتخاذها للسيطرة على حركات المقاومة، ومن ثم تأمين ظهر قوات الاحتلال، والحيلولة دون انطلاق أي عمليات للمقاومة من القطاع. أن حجم الدور المصري الذي يتجاوز بكثير مسألة الدور الأمني في غزة، والإصرار الإسرائيلي على حصار الدور في تلك الجزئية التي تخدم مصلحتها وحدها، يثير التباساً يحتاج إلى حسم. ثم أن ذلك المدخل يستدعي اكثر من سؤال حول حقيقة وطبيعة المشكلة الأمنية في غزة، لان القراءة الإسرائيلية مختلفة بل على النقيض تماماً من القراءة العربية والفلسطينية. فإسرائيل تعتبر غزة هماً ثقيلاً، ومصدراً للإزعاج مزمناً لها، ولعل كثيرين يذكرون أن اسحاق رابين قال قبل عشرين عاماً انه تمنى أن يستيقظ ذات صباح ليجد أن غزة غرقت في البحر واختفت من الوجود. وهو تصريح قديم نسبياً يصور مدى ضيق ومقت القيادة الإسرائيلية للقطاع وأهله، وتمنيهم الخلاص منه بأي وسيلة، حتى أن بعض المعلقين الإسرائيليين تمنوا أن يخرج جيشهم منها بلا مقابل وبأسرع وقت. وفي صحفهم الآن كتابات عديدة يتساءل فيها أصحابها: لماذا يذهب أبناؤنا لكي يقتلوا في غزة؟ من الثابت إذن أن إسرائيل تريد التخلص من عبء غزة، وان تستريح من هم المقاومة فيها. ولأنها فشلت في ذلك حتى الآن، برغم عمليات الاغتيال والاعتقال والقصف والتدمير التي مارستها بحق سكان القطاع، فإنها تريد من غيرها أن يقوم بهذه المهمة. هذا كل ما في الأمر. الأمر مختلف من وجهة النظر العربية والفلسطينية، التي ترى أن الاحتلال هو المشكلة، وان غزة التي تراها إسرائيل هماً هي في القراءة المقابلة قلعة للصمود ونموذج للفداء واختبار لقوة الإرادة، نجح فيه الفلسطينيون بامتياز مع مرتبة الشرف. هذه القراءة التي ترى فيها إسرائيل أن المشكلة أمنية في غزة، بينما هي في مشكلة احتلال في المنظور العربي، تقتضي عند الحد الأدنى ألا يكون العرب طرفاً فيما يسمى بالمشكلة الأمنية في القطاع. وإعمالا للقاعدة الأصولية التي تقول بأنك إذا لم تكن قادراً على إحقاق الحق فلا تكن عوناً على إقامة الباطل، فان الطرف العربي إذا لم يكن بمقدوره أن يحل مشكلة الاحتلال، فلا اقل من أن ينأى بنفسه عن تأمين ظهره. وفيما يخص إعداد وتأهيل الكوادر الأمنية الفلسطينية، الذي يمثل إعانة للسلطة الوطنية ودعماً لها، فمن اليسير استقدام العناصر التي يراد تأهيلها للالتحاق بدورات أو معاهد مصرية متخصصة، بدلاً من الذهاب هناك، في ظل ما يستصحبه ذلك من محاذير وشكوك. وليس ذلك جديداً، فالأجيال الأولى من رجال الأمن الفلسطيني - والسودانيين أيضاً - تم تأهيلهم وتدريبهم في القاهرة قبل عدة سنوات. لقد نفى وزير الخارجية المصرية احمد ماهر فكرة توريط مصر في غزة. ولست اشك في أن مصر واعية بمحاذير العملية ومتحسبة لاحتمالاتها، لكن ذلك لا ينفي أن المبادرة في مجملها مسكونة بدرجة من المغامرة لا يمكن إنكارها. سواء في المقاصد أو التوقيت أو الطرف الإسرائيلي الذي يراهن عليه في ذلك. وهو الذي لم يكن مصدراً للثقة يوماً ما. وهي ملابسات تشكك في الجدوى المأمولة من المبادرة، التي بغيرها تظل مصر الكبيرة محتفظة برصيدها وقوامها وبرؤيتها الاستراتيجية الصافية.