في مقدمة كتابه يقول بيير بيارنيس: ان عالما جديدا يشهد ميلاده الآن, لن يعرف على الارجح حروبا شاملة قط حتى وان لم ينج من الصراعات الاقل حدة.. في هذا العالم الجديد سيكون لامريكا مكانها الذي سيكون كبيرا وهاما بالتأكيد, بل والاول لامد طويل ولكن عليها من الآن فصاعدا ان تحسب حساب قوى اخرى, مشحونة تاريخا, باتت تثبت ذاتها يوما بعد يوم او هي تولد من جديد والتي لم يعد يخيفها ان تقول لها: لا, اوروبا والصين اولا ثم على مدى ابعد بقليل روسياواليابان والهند دون ان ننسى العالم الاسلامي, عالم ذو ثقافة عريقة ولاسيما الشرق الاوسط, عالم بدأت امريكا تقف ازاءه موقفا دفاعيا رغم ما يعانيه من فرقة وتفكك.. وعلى الامريكيين من الآن ان يقروا بانهم لن يستطيعوا الاستمرار في فرض قانونهم على القارات الخمس الى ما لا نهاية. ونتساءل هنا ما الذي دفع بييارنيس لقول ذلك: هل هو كرة امريكا او قراءة للواقع والتاريخ ام ماذا؟ تاريخيا وحسب دورات صعود وهبوط الامم والحضارات نقول نعم لن تستطيع امريكا حكم العالم, واقعيا يمكن لنا ان نتوقف طويلا لنستقرئ الامور مع فصول الكتاب. امريكا لا تطاق في الجزء الاول من الكتاب يتناول المؤلف في فصله الاول الذي جاء بعنوان (العالم للأمريكيين) العديد من الحوادث والوقائع التاريخية تؤكد الهيمنة المعنوية والتجارية التي يتمتع بها الامريكيون القائمة على القوة العسكرية والثقة بالنفس والتي ليست حديثة العهد ولكنها بدأت منذ ظهور اصول الامة الامريكية الاولى التي قضت على ملايين الهنود ويرصد مقولات لزعماء امريكا الاوائل مثل وليم جيفرسون حول (امركة العالم وسيادته), ومع نهاية الحرب الباردة اصبحت امريكا (الجمهورية الامبراطورية) ويتأكد هذا الامر بالوثائق الرسمية التي تؤمن الحفاظ على وضع امريكا كقوة عظمى وحيدة في العالم بعد انهيار المعسكر السوفيتي. ويرصد الكتاب لما تقوم به امريكا باسم النظام العالمي الجديد ويحلل دور الدول الاوروبية وموقفها من امريكا مبينا ان امم اوروبا الغربية تظل اكثر ارتباطا وتمسكا بوصفها كذيول (توابع) لامريكا. ويرجع بناء الهيمنة المشتركة مع روسيا الى تحييد الاخيرة لتدعيم وضع امريكا كدولة عظمى وحيدة وهذا ما بدأه جورج بوش الاب بعد حرب الخليج الاولى ودعمه الرؤساء بعده ومازالوا. ويلمس الكتاب التقدم الهائل الذي تشهده الصين ومحاولة امريكا احتواء هذه الدولة الكبرى او محاولة توجيهها الى ما يخدم المصالح العليا الامريكية. وينتقل الكتاب الى الشرق الأوسط كرهان كبير, الان ففي الشرق المعقد يتقدم الامريكيون اكثر من اي مكان آخر من العالم بفكرة واضحة وهي السيطرة على الوضع من اجل مصالحهم الهائلة والتي تتمثل في البترول الذي سيزداد الطلب عليه عام 2010م ليصل الى الاستهلاك الى 5ر93 مليون برميل يوميا والشرق الأوسط باحتياطيه هو الذي سيؤمن الزيادة في الطلب, هذا الشرق يتصوره الامريكيون بمفهوم شمون بيريز يتكون من بلدان معظمها صديقة لامريكا وهي متوازنة عسكريا واقتصاديا ودينيا وتبقى اسرائيل وحدها اقوى وامن شريك لامريكا.. وامريكا لم تستطع حتى الآن ان تحقق تصورها في هذه المنطقة ولذلك يقومون بلعبة كلاسيكية قديمة تنطلق من مبدأ (فرق تسد). ويتحدث الكتاب عن حرب العراق الاولى ودور امريكا واهمية دور اسرائيل ومساندة امريكا والمستوى المتفوق من القوة والعدوانية في الشرق الاوسط. ويتناول علاقة امريكا بافريقيا ويعتبرها هي وامريكا اللاتينية دون اهمية استراتيجية كبرى لامريكا وان عملت دبلوماسيتهم هناك على شراء العملاء لخدمة القضايا الامريكية. الذين يقولون (لا) في الفصل الثاني من الكتاب يسرد المؤلف احداث الوحدة الاوروبية التي بدأت تتجسد بانشاء عملة قومية وتجارة موحدة ويصبح اليورو منافسا للدولار وتخضع بريطانيا في النهاية للقرارات الاتحاد الاوروبي الذي يصبح حقيقة واقعة ورغم قوة هذا الاتحاد الا ان هناك مشاكل عديدة تحيطه فهو لا يستطيع ان يتصرف دون تورط عسكري على جانب الجنوبي او في افريقيا اي جزء من العالم تقتضي مصلحته به. وفي كل هذه الاصقاع لايمكن لمصالح امريكا الحيوية ان تتعرض للخطر الا بشكل هامش ولذا لم يعد لها اي مبررات للتورط في صراعات بجانب الاوروبيين. وحول صناعة السلاح في اوروبا يرى الكتاب ان الصناعة الاوروبية للاسلحة دخلت مؤخرا في مرحلة عميقة من اعادة الهيكلة والتعاون المشترك للمنافسة الامريكية, فطريق السلاح لا يقل اهمية عن صك النقود حتى يتسنى لاوروبا ان تصير من جديد ملكا للاوروبيين. الامبراطورية الصينية يرى الكتاب في فصله الثالث الذي خصص للصين ان القرن الواحد والعشرين سيجعل الصين في قلب العالم اكثر بكثير من امريكا التي تهيمن اليوم ولن يقل سعي الصين عن سعي اوروبا في ان تستعيد التحكم بمصيرها, فالصين يزيدعدد سكانها عن المليار ومئتي مليون نسمة - اي خمس سكان العالم - وتطور عسكريا واقتصاديا وهي لها الآن مكانتها عالميا وتسعى الى تمديد تأثيرها الثقافي خارج حدودها. وقد فتحت اليوم خصومات مفتوحة او مغلقة مع كل جيرانها على طول الخطوط لاستعادة ما اخذ منها وهي عازمة على نشر هيمنتها من جديد على الاقل في آسيا ويحلل المؤلف الاوضاع الاثنية داخل الصين والمشاكل التي تواجهها وايضا النجاحات التجارية والدبلوماسية والعسكرية التي حققتها مع الدول الواقعة حول روسيا وغيرها لتشكل بذلك بداية عودة موفقة الى مركز مسرح السياسة الدولية والتجارة فقد صارت خلال العشرين عاما الاخيرة قوة تجارية عظمى باتت تستقطب اموالا اجنبية هائلة. ويحلل التباينات في الواقع الاجتماعي الصيني والغاز السلطة الصينية ويرى ان الصين على خلاف روسيا تمتلك فن ممارسة النهاية السعيدة. نهضة روسيا من الصين الى موسكو يأخذنا الكتاب مبتدئا بوقائع ونتائج انهيار جدار برلين او (حائط العار) التي عدها البعض بداية العالم الجديد ونهاية الحرب الباردة ويستعرض تاريخ الاتحاد السوفيتي وتكويناته وانتماءاته الشيوعية وانشاء المعسكر الاشتراكي الاوروبي وامور عديدة اخرى منها نهاية الاتحاد السوفيتي نتيجة لخلاف يلتسين مع جرباتشوف. ويدعو الكاتب روسيا الى اعادة تاريخها من جديد فهي تمتلك الكثير من الاوراق الاقتصادية الرابحة القوية ومنها وحدة اقتصادية للجمهوريات الاتحادية القديمة اسوة بالاتحاد الاوروبي, واضافة الى ذلك اوراق دبلوماسية رابحة وهي رغم فقرها اكثر استعداد بفضل انظمتها السياسة. ويستعرض الامور في دول الاتحاد السوفيتي السابق المستقلة حيث تجري الرياح فيها بما لا تشتهي السفن بالمشاكل والعقبات وحرب امريكا الخفية في ابقاء هذه الدول خاصة روسيا على ما هي عليه من الضعف ويرى ان روسيا سوف تبعث من جديد آجلا ام عاجلا ولكنه لا يعرف متى ذلك؟ المسعى الياباني بسرد تاريخي يبدأ من تشييع جنازة الامبراطور شووا (هيروهيتو) عام 1989م ويتجه الى الخلف ليتناول النهضة اليابانية منذ تأسيس اليابان وتاريخ الامبراطور الذي كان حفيدا للامبراطور ميجي العظيم مؤسس اليابان الحديثة. ويتناول حركة التغيير والتحديث في الحياة اليابانية والنهضة الصناعية واجتياز الازمات في ثلاثنينيات القرن العشرين الماضي ثم الحرب العالمية الاولى والثانية التي انتهت باستسلام اليابان بعد قصف هيروشيما ونجازاكي وموت ثلاثة ملايين ياباني وضياع هيبة الامبراطور. وبعد مرور خمسة عشر عاما كانت اليابان قد اصبحت ثاني قوة اقتصادية في العالم رغم هزيمتها الرهيبة وكذلك تمكنت في فترة وجيزة من القيام باصلاحات جذرية طالت الكثير لتتفجر الطاقة الابداعية لليابان وتحاول الخروج من مأزق واشنطن - بكين فاتباع سياسة نفوذية مبنية اساسا على قوة استثماراتها واستراتيجيتها في جنوب شرق آسيا وفي كوريا والصين. ويرى الكتاب ان اليابان ستصبح واحدا من الاقطاب الاستراتيجية في عالم الغد. يقظة العملاق الهندي من بكين الى نيودلهي وبنفس السرد التاريخي الذي يطال الواقع الاجتماعي والجغرافيا والسياسة واستعراض الديمقراطية البرلمانية المزعزعة في الهند يمضي بنا الكاتب مستعرضا العديد من الامور التاريخية والاقتصادية وموقف الهند من الحياد الى العزلة وقضاياها في كشمير وصراعها مع باكستان واعادة بناء علاقتها مع روسيا والصين ونموها الكبير والمصاعب الهائلة التي لا تزال تصطدم بها ومع ذلك تبقى الهند في الوقت الحالي عملاقا معزولا. ويأخذنا بعد ذلك من آسيا الى امريكا اللاتينية حيث المكسيك والارجنتين والبرازيل واورغواي وكوبا ومحاولة هذه الدول الوقوف في وجه المد الامريكي ومقاومة الهيمنة. الخطر الأحمر والخطر الأخضر وإلى الشرق الأوسط يأخذنا الكتاب حيث الجزائر الغارقة في الحرب الاهلية ومصر بمشاكلها وليبيا القذافي التي تعقلت وترزنت والمملكة التي تجتاز مرحلة من الدوامات مع الارهاب ويعرج الى اسرائيل وايران وتركيا ليخلص الى ان المسلمين اليوم يعيشون فترة من الصحوة ومن الرجوع الى الاصول ويدعو الغرب الى المساهمة في التنمية الاقتصادية كوسيلة للاستقرار.. ويتوقف بنا عند الجزائر وتاريخها ثم يأخذنا الى اسرائيل وصراع الليكود في محاولة دعم مشروع اسرائيل الكبرى ورهان اسرائيل على انقسامات العرب ومصاعبها الداخلية لتمرير محاولاتها في الهدم والقتل. ولا يتوقف المؤلف عند تركيا وتاريخها الطويل والعلمانية الخالصة الصارمة والاهمال المقصود للتاريخ العثماني ودبلوماسيتها المشلولة بسبب القضية الكردية وكذلك مشاكلها الداخلية ويأخذنا بعد ذلك الى البؤرة البلقانية ضمن رصده للعالم الاسلامي وينتهي عند جنوب افريقيا. وبعد هذا الاستعراض لاحداث وتاريخ بلدان العالم التي تشكل حاجزا ما وبدرجات متفاوتة امام المد الامريكي يعود بنا (بيير بييارينس) الذي طرح كتابه قبل غزو العراق الى السؤال الرئيس: هل استمرار الهيمنة الامريكية امر مضمون ومؤكد كما يدعى البعض؟ وهل حق امريكا ذات ال (240) مليون نسمة ستحكم العالم إلى الابد؟ الكتاب يراهن على النفي للكراهية التي تلقاها جراء سياستها الخاطئة, وللنزوات التي لا تلقي بالا للعالم ولا للمنظمة الدولية ولتناقص رقعة الموالين لها. الكتاب: القرن الحادي والعشرون لن يكون امريكيا ط 1 (2003) المؤلف: بيير بيارنيس المترجم: مدني قصري الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت عدد الصفحات: 366 من القطع الكبير