للفيسلوف الألماني "هيجل" مقولة شهيرة أن "آسيا ستكون بداية التاريخ وأوروبا نهايته" وإذا كان هذا القول جاء في القرن التاسع عشر، فهو نبوءة تتحقق مع انفجار الأزمة المالية العالمية عندما أصبح سكان هذا الكوكب يديرون أنظارهم لأكبر قارة تختزن أكبر تجمع بشري على وجه الأرض، وتأتي بنهضة قياسية وسريعة غير مسبوقة اقتصادية وتقنية وثقافية.. قبل نصف قرن كانت هيمنة أوروبا على القارات فرضية تاريخية، لكن عاصفة الحربين العالميتين غيرت موازين القوى نحو السوفيات وأمريكا، وقد انقسم العالم بين طرفيء القوة، وكنا في الوطن العربي جزءاً من تحول نحو الشرق، أوالغرب لأسباب بعضها موضوعي، وبعضها الآخر عاطفي.. فالذين ذهبوا للاتحاد السوفياتي انحازوا لمعسكره بسبب قسوة الاستعمار، وكان لجاذبية الأيدولوجيا الاشتراكية التي نادت بتحرر الشعوب، وحتمية ولادة وظهور الشيوعية المطلقة، أعطت للمنخرطين في تلك الأحزاب وفلسفتها أن جعلوا من هذا النظام دستور تحررهم، وآمالهم بالدولة الحلم.. أما من ذهبوا للغرب، فكان لأسباب دينية، أو علاقات خوف من المارد الشيوعي الذي بات يلاحق، وبتطرف مطلق، كل دولة أو نظام لا يسير في اتجاهه، وكانت الكارثة تمزيق الخارطة العربية بقيام الانقلابات والانقسامات التي لم نتعالج منها حتى هذا التاريخ.. الآن اليسار واليمين العربيان يشعران بتبعيتهما للغرب لأن لديه ما يعطيه، وما يفرضه بالقوة العسكرية خاصة بعد زوال الخصم السوفياتي، لكن إذا كانت الصين تتبع نموذجاً اشتراكياً ورأسمالياً، وأنها قوة بدأت توزع استثماراتها على القارات البائسة والمتخلفة في أفريقيا وجنوب أمريكا، فهي الآن سيارة الإسعاف للاقتصاد العالمي، مع روسيا والهند ودول أخرى، وطالما الاعتماد على معسكر ما لم يعد ذا قيمة في زمن صياغة نظام وعلاقات دولية جديدة، فإننا في المنطقة العربية لا بد أن نعرف اتجاه الرياح القادمة من الشرق، والتي ستكون البديل المعوِّض عن سياسة الهيمنة التي فرضتها أمريكا وأوروبا من خلال الحروب، والصندوق والبنك الدوليين، وانتشار قوتهما في البحار وداخل المدن وخاصة العربية مثل العراق، والبحار المحيطة بحدودنا في الخليج والمحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، بينما لم نجد هذا التورط لدى روسيا، إلا في محيطها الذي يريد حلف الأطلسي تكتيفها بقواعد صاروخية، ومثلها الصين والهند واليابان، والتي غالباً ما تريد حل تناقضاتها بالدبلوماسية المرنة.. هذا التحول العالمي يدفعنا إلى رسم خطط لعلاقات أكثر تطوراً، بحيث نرى في الدول الآسيوية الكبرى، وكذلك أمريكا الجنوبية منافذ جديدة، ليس لها عداوات تاريخية، أو وجود على أرضنا أو حتى نزاعات تقليدية نتوارثها أو نكتوي بنارها، وبالتالي مثلما للغرب أهميته في قطاعيه الأوروبي والأمريكي، فإن انفتاحنا على آسيا بذات المصالح والعلاقات يفترض أن ندرس المتواليات الحسابية في المكاسب والخسائر، خاصة وأن القطبية القادمة، لم تأت من خلال تصور عاطفي يتلبسنا، وإنما من خلال رصد فكري وتحليلي للغرب نفسه الذي يؤكد أن المواجهة على المستويات الاقتصادية والتقنية وغيرهما قادمة وبقوة.. نحن في المنطقة العربية أصحاب موارد محدودة، لكنها مهمة، ونقع على تقاطع القارات ونتيجة جوارنا مع أوروبا لم نلق إلا تنميته بيئة الصراع مع إسرائيل أو المتحالفين معها، بعكس الجوار الآسيوي الذي جعل علاقاتنا التاريخية حضارية سلمية، وبالتالي فالشرق القادم يفرض أن يكون لبوصلتنا أكثر من اتجاه حتى لا ننحصر بجغرافية واحدة، وهي موازنة موضوعية لآفاق اقتصادية وسياسية وأمنية مع آسيا بداية التاريخ..