عندي كلمتان في ملف التعذيب الذي فرض نفسه على خطابنا طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية، إحداهما تتعلق بخلفيات ما جرى في سجن (أبو غريب)، والثانية تخص ما يجري في سجون (أبو قريب)، إذا جاز التعبير. ذلك أن الأمريكيين ليسوا أبرياء من ارتكاب ذلك الفعل الفاضح، ولا نحن أيضا - ؤمن ثم فغضبنا ينبغي أن ينصب على الجرم أياً كان مصدره، أعني سواء كان التعذيب أمريكياً أم (وطنيا). (1) عندما فاحت الرائحة الكريهة، وانفضح الأمر في أعقاب بث شبكة تليفزيون ( سي. بي. إس) للصور الفاحشة في 29/4، سارع الرئيس بوش إلى القول إن الأمريكيين الذين ظهروا في الصور (لا يمثلوننا) و) ليسوا منا). ومضى على الدرب آخرون من أركان إدارته، محاولين إقناع العالم بأن أولئك الأمريكيين بمثابة استثناء وشذوذ لا حكم له. وقرأت تعليقات عربية صدرت عن بعض الأبواق المعروفة، عبرت عن الفكرة نفسها وحاولت تبييض صفحة أمريكا وغسل أيدي المجتمع وثقافته من الجريمة. لم يخل الأمر من مفارقة. لأن أولئك الذين قاوموا بشدة فكرة التعميم، وألحوا على إقناعنا بحكاية (التفاحة الفاسدة التي لا تعبر عما في الصندوق)، هم أنفسهم الذين اتهموا العرب والمسلمين جميعا من جراء ما فعله عشرون شخصا من أبنائهم في 11 سبتمبر، و من ثم ادرجوا المليار مسلم- ودينهم أيضاً! - في قوائمهم السوداء، رافضين نفس المنطق الذي يطالبوننا الآن بقبوله وتبنّيه. وسط حملة (تبييض الوجه)، ظهرت كتابات سلطت الضوء على بعض جوانب حقيقة السلوك الأمريكي. فقد لفتت نظري مثلاً مقالة سوقتها صحيفة (واشنطن بوست) في 10/5، لكاتبة هي آن أبيلبوم رددت فيها كلام الرئيس بوش ضمنا، ودللت على أن ممارسات الجنود الأمريكيين هي إفراز طبيعي للواقع السياسي الأمريكي. وقد استشهدت بكتاب (سفاحو هتلر الطيبون)، الذي صدر في الولاياتالمتحدة قبل سنوات، وربط بين معسكرات الموت النازية والشخصية القومية الألمانية. وأشارت إلى الرأي الذي ربط بين التسلط والشمولية في الاتحاد السوفييتي وبين التقاليد الروسية القديمة لعبادة القيصر. لكنها عارضت الفكرة، قائلة إن خبرة القرن العشرين أثبتت أنه ليست هناك ثقافة غير قابلة للاختراق، حتى أن أية ثقافة يمكن أن ترتكب أبشع الفظائع. وخلصت إلى ان استعلاء السياسة الأمريكية، الذي يتمثل في اعتبار أمريكا بلداً استثنائياً فوق الحساب وفوق القوانين، الأمر الذي جعل حكومتها مثلاً ترفض محاسبة أي أمريكي أمام المحكمة الجنائية الدولية، هذا الاستعلاء ساعد على إيجاد المناخ الذي جعل ممارسة التعذيب أمراً ممكناً. وبكلام آخر فإنها اعتبرت أن الجنود الذين انتهكوا القوانين والأعراف والأعراض، وحاول الرئيس بوش وأعوانه أن يتبرأوا منهم، ليسوا سوى إفراز طبيعي للثقافة السياسية السائدة في الولاياتالمتحدة. (2) الأمر أبعد من ذلك وأعمق. وما قالته السيدة آن أبيلبوم هو جزء من الحقيقة، هوّن من الأمر بصورة نسبية. ذلك أن هناك شواهد عدة أثبتت أن المجتمع الأمريكي يقدس العنف ويعبد القوة. من ذلك مثلاً أن أستاذا لعلم النفس في جامعة ستانفورد، اسمه فيليب زيمباردو أجرى في عام 71 تجربة علمية قامت على تكليف فريق من الطلاب بالقيام بدور السجناء، وفريق آخر كلف بالقيام بدور السجانين، غير أن الأستاذ اضطر إلى وقف التجربة بعد أيام قليلة، خصوصاً بعدما اكتشف أن الطلاب تلبسوا بسرعة غير عادية دور السجانين الساديين، وبدأوا يعذبون رفاقهم باستمتاع أثار دهشتهم. في تجربة أمريكية أخرى طلب أستاذ في جامعة (يال) من طلابه استخدام الصدمات الكهربائية بشكل رمزي لإجبار سجين على الاعتراف. وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها الأستاذ أن ثلثي الطلاب استخدموا الصدمات الكهربائية بلا أي شفقة أو رحمة. محام من لوس أنجيلوس اسمه روبرت باستيان عرض الواقعتين في سياق تعليق كتبه بمناسبة انفضاح أمر ما جرى في (أبوغريب)، ثم تساءل: ما الذي تقوله لبوش ولرامسفيلد عن حقيقة طبيعة المجتمع الأمريكي ؟ ألقى الرجل السؤال ولم يجب، لأن ما ذكره كان فيه الكفاية. لكني وجدت ما هو أكثر عند تنقيبي وراء الممارسات الأمريكية. إذ وجدت أن الأمر بالنسبة للأمريكي العادي يتجاوز تقديس العنف والتعبد بالقوة، وإنما يذهب إلى حد الاستهانة بشأن الآخرين والإحساس المفرط بالتفوق عليهم. وهذا الخليط من المشاعر أفرز تلك البشاعات التي رأيناها في صور معسكر أبوغريب. حتى أزعم أن الذي تعرى في (أبوغريب) وغيره من السجون والمعتقلاتليس العراقيون، رغم أنهم جردوا من ثيابهم وتكومت أجسادهم فوق بعضها البعض، ولكن الذي تعرى حقاً هم أولئك الأمريكيون الذين ظهروا بكامل ثيابهم، والمجتمع الذي أفرزهم. أقنعتني بذلك كتابات رجعت إليها في الأسبوع الماضي. أولها نشرته (دار المدى) في دمشق للفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي عنوانه (الغزو مستمر) - ترجمته مي النبهان - وثانيها كتاب غير منشور لأستاذ جامعي أفغاني يتحفظ عن ذكر اسمه الحقيقي مؤقتاً لأسباب أمنية، وقد أطلعني على أصوله أثناء زيارة أخيرة قمت بها لباكستان. الكتاب الأول تحدث عن ممارسات الأمريكيين خصوصاً مع الهنود الحمر، أما الثاني فيتحدث عن الخبرة الأمريكية في أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان. (3) الصورة التي رسمها تشومسكي لتعامل المستوطنين الأمريكيين الأوائل مع قبائل الهنود الحمر مروعة للغاية، حتى لتبدو إلى جوارها الفظائع التي ارتكبها أحفادهم بحق المعتقلين العراقيين مجرد (تمارين بسيطة)، من قبيل تلك التي يتم بها التسخين قبل مباراة التعذيب. فقد ذكر أن أولئك المستوطنين اتخذوا من (فرجينيا) قاعدة انطلقوا منها للنهب والسلب ولإبادة (البهائم الأجلاف) و (عبدة الشيطان)، وهم الهنود الذين كانوا قد استقبلوا المستوطنين الأوائل ورحبوا بهم، وبفضل كرمهم تمكنوا من البقاء أحياء. كيف رد المستوطنون الجميل ؟ يقول تشومسكي انهم استخدموا أكثر الوسائل خسّة ووحشية في إبادة الهنود. فقاموا باصطيادهم بالكلاب المتوحشة، وذبحوا نساءهم وأطفالهم وأتلفوا محاصيلهم وتعمدوا نشر مرض الجدري المميت بينهم من خلال توزيع بطانيات حاملة للعدوى عليهم (!). وأضاف : بعد أن نالت المستوطنات الأمريكية استقلالها، استخدمت سلطة الدولة في تحقيق مقاصد عدة، بينها انتزاع الأرض من سكانها. وحسبما ذكره المؤرخ الدبلوماسي توماس بيلي فإن الأمريكيين (ركزوا على مهمة قطع الأشجار والهنود). بمعنى إزالة كل وجود للشجر والبشر فوق الأرض، لامتلاكها (نظيفة تماما). وهو - للمفارقة -هدف يجسد فكرة (الدمار الشامل)، الذي اتهمت واشنطنالعراق بامتلاك أسلحته. هذه العملية جرى التنظير لها وتسويقها. ذلك أن هوجو جروتيوس مؤسس القانون الدولي في القرن السابع عشر اعتبر أن (أكثر الحروب عدالة هي تلك التي تشن ضد البهائم المتوحشة، ثم الحرب ضد الناس الذين هم على شاكلتها)، أما جورج واشنطن مؤسس الأمة الأمريكية وأول الرؤساء الأمريكيين فقد كتب عام 1783م، قبل توليه الرئاسة بست سنوات، يقول (أن التوسع التدريجي لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجياً، وكذلك الذئاب. وكلاهما هدف للصيد، مع انهم مختلفون شكلا). أما توماس جيفيرسون ثالث الرؤساء الأمريكيين - (تولى في منتصف القرن الثامن عشر)- فقد ذكر أن (القبائل المتخلفة) على الحدود (سوف تتردى في البؤس والبربرية. وسوف تتناقص عدداً بسبب البؤس والفاقة. وسنكون مضطرين لسوقهم إلى الجبال الصخرية مع وحوش الغابات). في عام 1823، بعد سنة من إعلان مبدأ مونرو (الذي يمنع تدخل أوروبا في شؤون الأمريكيين مقابل امتناع الولاياتالمتحدة عن التدخل في الشأن الأوروبي)، دعا الرئيس الأمريكي إلى مساعدة الهنود في (التغلب على أفكارهم المسبقة بخصوص تراب بلادهم )أيضاً إسقاط حق العودة !(بحيث نصير محسنين لهم في الحقيقة)- ولأجل ذلك امر بترحيلهم غرباً، وحين لم يرضخوا لذلك، فإنهم رحّلوا عنوة. واستندت عملية الترحيل إلى تبرير قانوني وحشي. ابتدعه رئيس المحكمة الأمريكية العليا جون مارشال، الذي قرر (أن الاكتشاف يعطي حقاً متميزاً، يلغي حق الهنود في إشغال الأرض، سواء بالشراء أو الغزو).. ذلك ( أن القانون الذي ينظم العلاقة بين الغزاة والمغزوين، لا يمكن تطبيقه على قبائل الهنود، القساة المتوحشين، الذين يمتهنون الحرب ويستقون موارد العيش من الغابات بشكل رئيسي). (4) مبدأ الترخيص في إبادة الشجر والبشر (قطع الأشجار والهنود) طبقته الولاياتالمتحدة في هيروشيما وناجازاكي إبان الحرب العالمية الثانية، عندما أمرت بإلقاء القنبلتين الذريتين وابادت المدينتين بغير رحمة، ومعهما 200 الف ياباني، رغم أن واشنطن لم تكن مضطرة إلى ذلك، لعلمها بأن الإمبراطور كان متجهاً للتسليم بالهزيمة. وقد حظيت تلك الجريمة البشعة بتغطية واسعة لم تتوقف طيلة العقود الستة الأخيرة. في الستينيات مارست الولاياتالمتحدة سياسة (إبادة الشجر والبشر) مع الفيتناميين أيضاً، بعدما جن جنون القيادات العسكرية الأمريكية ازاء المقاومة الفيتنامية العنيدة والشرسة، وجرى تسجيل أحداث تلك المرحلة وبشاعاتها في مؤلفات عدة، لعل أشهرها كتاب جوردون توماس (رحلة إلى قلب الجنون). أما ما حدث من (قطع للأشجار والأفغان)، فلا يزال مسكوتاً عليه، ولم تكشف أسراره بعد، سواء لحداثة العهد بارتكاب الجريمة هناك (عام 2001) أو لبعد أفغانستان النسبي عن الأعين، أو لأن اجتياحها تم في ظروف مواتية للأمريكان. أعني بذلك أجواء صدمة 11 سبتمبر وتوافر مناخ عام إقليمي ودولي ساخط على نظام طالبان ورافض له، ومن ثم مرحب بالخلاص منه بأي صورة وربما بأي ثمن. تقرأ مثلا في الكتاب الذي أعده الأستاذ الجامعي الأفغاني أن الأمريكيين استخدموا في أفغانستان بعض الأسلحة المحظورة دولياً، من القنابل العنقودية إلى قذائف حاملة لليورانيوم المخضب. فقنابل (ديزي كتر) التي أطلقت على 128 قرية أفغانية طول الواحدة منها 141 بوصة، وتزن ما بين 10 و 15 طناً. وتتضمن كل قنبلة 202 قنبلة أخرى صغيرة، كل واحدة منها بحجم علبة المشروبات الغازية، وهي حين تنفجر تتحول إلى 300 شظية قاتلة. الأمر الذي يعني أن القنبلة العنقودية الواحدة تتفتت إلى 60 ألفا و 600 شظية مميتة بمجرد انفجارها. ألقيت تلك القنابل على 128 قرية افغانية. وخلال الأسابيع الخمسة الأولى من بدء الحرب على أفغانستان تم إلقاء 600 واحدة منها على الخطوط الأمامية لطالبان، في المناطق المجاورة لمدينة هيرات وجبال (توره بوره) في شرق أفغانستان وسهول شمال كابول. أما اليورانيوم المخضب فقد عثر على آثار له في منطقة توره بوره وقدمت التقارير الدالة على ذلك إلى قيادة قوات الولاياتالمتحدة في كابول، ولكنها اختفت وألقيت عليها ظلال كثيفة من الصمت. في الكتاب أيضاً معلومات مهمة عن إبادة الأسرى من جماعة طالبان، ومن العرب الذين كانوا يحاربون إلى جانبهم. وقد ضرب المؤلف مثلا على ذلك بما جرى لأكثر من أربعة آلاف شخص من الطالبانيين والعرب الذين حوصروا في مدينة (قندوز)، فتفاوضوا بحضور الأمريكيين على أن يسلموا أنفسهم إلى قوات القائد الأوزبكي عبد الرشيد دستم، على أن يعود جنود طالبان إلى قراهم وأن يسلم العرب إلى الأممالمتحدة أو دولهم، ولكن دستم والأمريكيين خدعوهم، وكدسوهم في صناديق شاحنات نقل كبيرة حملتهم من قندوز إلى شبرغان، وفي رحلة الموت هذه مات مئات منهم من الاختناق والعطش والجوع، فدفنوا في مقابر جماعية هائلة بصحراء (ليلى). وهذا المصير البائس نفسه كان من نصيب حوالي ألفي أسير وضعوا في قلعة (جنكي)، ثم جاءت الطائرات الأمريكية فدكته فوق رؤوسهم. تواصلت عمليات الإبادة التي تعرض لها آلاف الأفغان من جراء ما وصف بأنه (قصف خطأ) ناشئ عن الالتباس والاشتباه. وهو ما تعرضت له عدة قرى في ولاية (ننجرهار) قيل ان بعض عناصر طالبان اختبأوا فيها، كما تعرضت له قافلة سيارات كاملة كانت متجهة من ولاية بكتيا إلى العاصمة كابول لتهنئة الرئيس كرزاي بتنصيبه، وشك الأمريكيون في ركابها فأمطروها بقذائفهم. بل ان الأمريكيين لم يترددوا في إطلاق الصواريخ على حفل زفاف أقامه أحد شيوخ القبائل في مديرية وهراود بولاية أورزجان، لظنهم أن أحد قادة طالبان كان من بين حضور الحفل. أما الذي حدث في (أبوغريب) واهتز له ضمير العالم حين انفضح أمره، فلم يذكر أحد أن خطواته التمهيدية (البروفات ) تمت ( بنجاح كبير) في معتقلين رهيبين أقيما في أفغانستان، أحدهما في مطار قندهار (المدينة كانت مقراً للملا عمر) والثاني في قلب قاعدة باجرام العسكرية الهائلة، التي أقامها الأمريكيون على بعد 60 كيلومتراً عن العاصمة كابول. (5) شاركت في حوار دعت إليه إحدى الفضائيات حول الموضوع، وكان الطرف الآخر أكاديميا أمريكيا يعمل مديراً لمركز الدراسات القانونية في واشنطن، وكان إسهامي تلخيصا للأفكار التي ذكرتها. وهو ما عقب عليه صاحبنا الأمريكي قائلاً أن الفرق بينهم وبيننا، أن التعذيب في الولاياتالمتحدة استثناء، ومن يثبت عليه ارتكاب الفعل فإنه يخضع للحساب. في حين أنه في العالم العربي قاعدة وليس إستثناء، ثم انه يمارس دون حساب أو مسؤولية. وذلك ثابت في مختلف التقارير الدولية (ذكر قائمة بأسماء دول عربية لا أستطيع استعادتها لأسباب مفهومة). وجدت كلامه صحيحاً فقلت انني أؤيده فيما ذهب إليه، وأعرف أن (بيتنا من زجاج) في مسألة التعذيب. ولكنني أضيف أمرين، أحدهما أن الدول العربية التي تمارس التعذيب لم تقل انها زعيمة الديمقراطية في العالم، ولا هي حاولت إعطاء دروس في الديمقراطية للآخرين كما تفعل الولاياتالمتحدة - والثاني أن الولاياتالمتحدة التي تعد وزارة خارجيتها تقريراً سنوياً حول انتهاكات حقوق الإنسان وتدين مسلك الدول العربية المشار إليها، هي نفسها أرسلت أعداداً من عناصر تنظيم القاعدة إلى ثلاث دول عربية في العام الماضي لانتزاع الاعترافات منهم بالأساليب التي تستنكرها في تقاريرها. وقد نشرت صحيفة (واشنطون بوست) في العام الماضي تقريراً مفصلاً حول الموضوع، وقالت ان التعذيب في تلك البلدان كان يمارس بأيد عربية، وبإشراف وتوجيه من عناصر المخابرات المركزية الأمريكية.