فوجئ الفرنسيون قبل أيام بمقتل عشرة من جنودهم المرابطين في أفغانستان يومي الثامن عشر والتاسع عشر من أغسطس الماضي في كمين نصبه لهم طالبان خارج كابول. وهددت مجموعة من مقاتلي حركة طالبان بقتل كل الجنود الفرنسيين الذين لايزالون منتشرين في أفغانستان في حال عدم انسحابهم من هذا البلد قبيل نهاية شهر رمضان الماضي. والحقيقة أن جدلا حادا يدور في فرنسا حول جدوى الإبقاء على وجود عسكري فرنسي على الأقل بشكله الحالي في أفغانستان على غرار ذلك الذي يحصل في كندا منذ سنوات لاسيما بعد أن قضى قرابة مائة جندي كندي ضمن الجنود المنتشرين في أفغانستان في إطار مايعرف باسم "قوة إيساف". وبات واضحا أن هذا الجدل قد بدأ يفرض نفسه شيئا فشيئا في أغلب البلدان التي أرسلت جنودا إلى أفغانستان منذ عام 2001.ويقارب عددها الأربعين. ويعزى ذلك إلى فشل الإستراتيجية التي فرضتها الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأرغمت الأسرة الدولية على تبنيها لمعالجة الملف الأفغاني. ومن أهم أسباب فشل هذه الإستراتيجية التضارب الواضح بين طبيعة العمل العسكري الذي عهد فيه إلى القوات الأجنبية المرابطة في أفغانستان والواقع الميداني العسكري في هذا البلد. ولابأس أن نذكر بأن هناك إطارين اثنين لهذه القوات أحدهما ما يعرف باسم قوات " إيساف" أي القوة الدولية للمساعدة على حفظ الأمن. وقد أنشئت هذه القوة عام ألفين وواحد بعد طرد حركة طالبان من الحكم في أفغانستان بموجب مجموعة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي. وأصبح حلف شمال الأطلسي يشرف عليها منذ أغسطس 2003.وهناك إلى جانب هذه القوة المتعددة الجنسية قوة أخرى تتولى إدارة مايسمى "عملية الحرية الثابتة". وهي قوة تشرف عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية وتتكون أساسا من جنود أمريكيين. وتتمثل مهمتها الأولى في جمع معلومات عن الشبكات الإرهابية العاملة في البلاد وفي طليعتها تنظيم القاعدة والتصدي لها بكل الطرق. وقد فشلت القوتان في تأدية المهمة التي عهد فيها إليهما لأنهما تحولتا بمرور الوقت لدى الأفغان إلى قوتي احتلال لاسيما بعد تكرار الغارات التي تطال المدنيين. وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان الأفغانية المستقلة في أحد تقاريرها الصادرة مؤخرا أن عدد ضحايا الغارات العشوائية التي تشنها بانتظام القوات الأجنبية على المدنيين الأفغان تجاوز ألف ضحية منذ مطلع العام الجاري. ولايتجاوز عدد القوات الأجنبية المنتشرة في أفغانستان خمسة وسبعين الف شخص. وهناك اليوم إجماع لدى الخبراء العسكريين على أن السعي إلى الحفاظ على الأمن في أفغانستان يتطلب حشد قوات يبلغ عددها على الأقل ثلاث مائة ألف جندي في بلد تبلغ مساحته ستمائة وسبعة وأربعين ألفاً وخمسمائة كيلومتر مربع شريطة أن يخضع تحرك هذه القوات داخل أفغانستان إلى تنظيم محكم. وهو ماتفتقر إليه اليوم القوات الأجنبية المنتشرة في هذا البلد مقاتلون جدد ومن العوامل الأخرى التي أدت إلى فشل الإستراتيجية الدولية تجاه أفغانستان العودة القوية لحركة طالبان التي أصبحت تسيطر على قرابة نصف البلاد وأصبح عدد مقاتليها يتجاوز عشرين ألف شخص مقارنة بما كانت عليه الحركة بعد طردها من كابول في أكتوبر عام ألفين وواحد. ويعتبر المحللون السياسيون الذين يتابعون عن كثب حركة طالبان أنها تختلف كثيرا اليوم في تركيبتها وطريقة عملها وتعاملها مع الأفغان ومع الخصوم عما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي. فالملا عمر الذي لايزال يدير الحركة حوّلها شيئا فشيئا إلى تنظيم محكم على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والإعلامية انطلاقا من كفاءة كل منتم إلى الحركة ومن القاعدة التي تقول إن الشخص المناسب ينبغي أن يكون في الموقع المناسب. وكانت الحركة في بداياتها عبارة عن مجموعات من الشباب المتخرج من المدارس القرآنية الباكستانية والذين لاعلاقة لهم بالعمل الميداني والسياسي. وكان كل هم الحركة من قبل فرض نمط اجتماعي متشدد على المجتمع بالقوة فأصبحت تتعامل اليوم مع الأفغان بشكل مغاير. فإذا كانت الحركة خلال الفترة التي حكمت فيها البلاد من عام ثمانية وتسعين إلى عام ألفين وواحد قد منعت مثلا زراعة المخدرات ،فإنها تغض اليوم الطرف عن ذلك في المناطق التي تسيطر عليها لعدة أسباب منها أنها تمول جانبا كبيرا من أنشطتها من واردات المخدرات ولأنها تعلم أن مئات الآلاف من الأسر القاطنة في الأرياف الأفغانية لاتستطيع أن تحصل على قوتها إذا تخلت في الظروف الراهنة عن زراعة المخدرات. فساد الأوساط الحاكمة بل إن الفساد المستشري اليوم في الأوساط الحاكمة في أفغانستان جعل كثيرا من الأفغان في المناطق القبلية أساسا يحتكمون إلى حركة طالبان لفض النزاعات والخلافات بدل الاحتكام إلى القضاء الأفغاني الرسمي بسبب خيبة الأمل الكبيرة التي تشعر بها شرائح كثيرة من المجتمع الأفغاني إزاء حكم الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الذي سعى إلى التمكين إلى نفسه في السلطة عبر صناديق الاقتراع في السنوات الأخيرة.ولكن هناك اليوم شعورا متفشيا عند الأفغان بأن كرزاي لايزال رئيسا للبلاد لأن الغرب يرغب في أن يكون الأمر كذلك ولأن العلاقة التي يقيمها اليوم مع المشرفين على السلطات الإقليمية والمحلية في البلاد يتحكم فيها الفساد والرشوة والمحسوبية. ولدى الأفغان اليوم في سياق هذا الشعور إحساس بأن الغرب يعرف ذلك ولكنه لايرغب في مساعدة الشعب الأفغاني على بناء مستقبله بناء سليما. وهو ما تؤكده مثلا التقارير والدراسات حول المساعدات الدولية التي وعد بها الأفغان منذ إرغام حركة طالبان على التخلي عن السلطة في أكتوبر عام ألفين وواحد. فقيمة هذه الوعود منذ ذلك الوقت إلى شهر مارس الماضي قدرت بحوالي خمسة وعشرين مليار دولار لم تدفع منها إلا مبالغ تتراوح بين اثني عشر ملياراً وخمسة عشر مليار دولار. ولاحظت التقارير أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تف حتى بنصف التزاماتها المالية تجاه أفغانستان منذ شن الحرب. كما جاء في هذه التقارير أن أربعين بالمائة من المساعدات التي قدمت فعلا للأفغان تذهب إلى جيوب الشركات المكلفة بإيصال المساعدات الإنسانية إلى هذا البلد وموظفيها ومستشاريها. وهي عموما مؤسسات غربية لا أفغانية. واتضح أيضا أن ثلاثة أرباع ما تبقى من أموال هذه المساعدات تذهب إلى جيوب ماسكي السلطة على المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية بدل أن تستخدم في إعادة إعمار أفغانستان. دور المخابرات الباكستانية وإذا كان هناك عامل مهم من العوامل التي لاتساعد الغرب على النجاح في الإستراتيجة التي ينتهجها حاليا إزاء الأزمة الأفغانية فهو الدور الكبير الذي ظلت أجهزة المخابرات الباكستانية تقوم به لمساندة حركة طالبان وحمايتها واستخدامها في نهاية المطاف وسيلة لإضعاف كل محاولة تقارب بين أفغانستان والهند. ويقول الخبراء الجيوستراتيجيون إن تعامل أجهزة المخابرات الباكستانية على هذه الشاكلة مع حركة طالبان يترجم في نهاية المطاف رغبة ظلت دوما لدى صناع القرار السياسي الباكستاني مفادها أن أفغانستان ينبغي أن تشكل بعدا إستراتيجيا قويا في سياسة باكستان تجاه الهند وأن ذلك يتطلب التصدي كما ذكرنا لأي محاولة تقارب أفغانية - هندية. وهو ما يفسر إلى حد كبير انزعاج السلطات الباكستانية من تصريحات الرئيس الأفغاني حميد كرزاي في هذا الاتجاه خلال الأشهر الأخيرة. وتعتبر أوساط غربية كثيرة منها جهاز الاستخبارات الأمريكية أن الاعتداء الذي استهدف مثلا سفارة الهند في كابول في شهر يوليو الماضي إنما تقف وراءه أجهزة المخابرات الباكستانية وقد أسفر الاعتداء عن مقتل ستين شخصا على الأقل وإصابة العشرات الآخرين بجروح. ويقول هؤلاء الخبراء الجيوستراتيجيون إن كل الرؤساء الذين تعاقبوا أو الذين سيتعاقبون على السلطة في باكستان سيجدون أنفسهم مضطرين لحماية حركة طالبان لأنهم يدركون أنها ستظل ورقتهم الرابحة لاستخدام أفغانستان كبعد إستراتيجي في علاقة بلادهم مع الهند. حتى الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف الذي كانت تنظر إليه واشنطن باعتباره حليفا مواليا لطروحاتها تجاه الإرهاب المنسوب إلى المجموعات الإسلامية المتطرفة كان يرى أن هناك حدودا لمطالب الولاياتالمتحدة تجاه علاقة باكستان بحركة طالبان. وكانت لديه معلومات دقيقة عن العلاقات الجيدة التي كان ولايزال يقيمها مقاتلون باكستانيون نشطوا من قبل في كشمير مع حركة طالبان على الحدود الباكستانية - الأفغانية بعد الهدوء النسبي الذي شهدته الجبهة الكشميرية في السنوات الأخيرة. ومع ذلك فإن مشرف رفض تسليم الولاياتالمتحدة مثل هذه المعلومات. خلاصة القول إن التصور العام الذي يتحكم اليوم في طريقة تعامل الغرب مع الأزمة الأفغانية كشف عن حدود جدواه لأسباب وعوامل كثيرة منها تسعة على الأقل وهي ضعف الإمكانات العسكرية المستخدمة اليوم للتصدي لطالبان والحفاظ على الأمن في البلاد واستخدامها استخداما في غير محله وتزايد الاعتداءات العشوائية التي تطال المدنيين الأفغان من قبل القوات الأجنبية المرابطة في البلاد والتي أصبح الأفغان ينظرون إليها باعتبارها قوات احتلال وهشاشة سلطة الرئيس حميد كرزاي ووجود أزمة ثقة بينه وبين شرائح كثيرة من المجتمع الأفغاني واستخدام المساعدات الدولية في غير محلها وتفشي الفساد والمحسوبية في الأوساط الحاكمة على كافة المستويات وعودة حركة طالبان بقوة والطريقة التي تتعامل من خلالها باكستان ولاسيما أجهزة مخابراتاه مع حركة طالبان بشكل خاص ومع أفغانستان عموما في إطار إدارة ملف النزاع الباكستاني - الهندي على منطقة كشمير. وإذا كان هناك نقطة أساسية يقول المحللون الجادون إنها تشكل بداية مشروع تصور بديل يسمح بتطويق الأزمة الأفغانية فهي تلك التي تتمثل في الانطلاق من مبدأ أن أفغانستان لايمكن أن تستقر على حال إذا لم تدرج كل القوى والأطراف السياسية الأفغانية في أي مشروع لتسوية الأزمة وإذا لم تفتح مفاوضات جادة وطويلة النفس لإرساء مصالحة وطنية أفغانية على غرار ماحصل في بلدان كثيرة أخرى في العقود والسنوات الأخيرة.