رغم بشاعة الصور التي رأيناها لما جرى في سجن أبو غريب، إلا أن ذلك كله يظل (حدثاً أصغر) إذا ما قورن بالحدث الأكبر المتمثل في (نجاسة) الاحتلال. ذلك أن تعذيب المعتقلين العراقيين وهتك أعراضهم يتضاءل كثيراً إذا ما قورن بهدم العراق بكامله واغتصابه. ثم انه من البلاهة أو النفاق أن نأسى لعدوان وقع على شرف نفر من الناس، في حين ننسى أو نتجاهل أوأو نتجاهلأو نتجاهأن شرف الأمة كلها قد تمت استباحته. (1) أحذر من الالتباس وخلط الأوراق، حتى لا يتصور أحد أن المشكلة هي ما حدث في سجن أبو غريب. بحيث إذا تمت التحقيقات وعوقب بعض الجنود والضباط، أو أطيح ببعض الرؤوس في قيادة الجيش الأمريكي أو تمت التضحية بوزير الدفاع دونالد رامسفيلد فأقيل أو استقال، ثم اخضع السجن لإشراف الأممالمتحدة ومراقبة الصليب الأحمر، إذا حدث ذلك كله أو بعضه فانه يصبح سبباً كافياً لارتياحنا وإشاعة الرضا والحبور في أوساطنا، الأمر الذي يجعلنا ننصرف إلى أمورنا بضمير مستريح. ما أريد أن أقوله بالدقة إن سجن أبو غريب بكل ما جرى فيه من جرائم وفواحش يندى لها الجبين ليس هو المشكلة، ولكنه فرع عن مشكلة أصلية هي الاحتلال. وينبغي أن تظل تلك الحقيقة حاضرة في كل الأذهان، وألا ننجر وراء الدعاوى والفرقعات التي تستهدف صرف انتباهنا عنها حيناً بعد حين. لقد ظلوا زمناً يلوحون للعراقيين بفزاعة صدام حسين، ويروجون للادعاء بان عمليات المقاومة التي تجري من فعل (فلول) النظام البعثي السابق الذين يريدون استعادة سلطانهم. وكان الهدف من ذلك هو إقناع العراقيين بأن الاحتماء بالأمريكيين هو الملاذ أو الحل. وحين القي القبض على صدام حسين سقطت الحجة، فخرجوا علينا بحكاية أن العراق اصبح بؤرة للإرهابيين وساحة تجمع لعناصر (القاعدة)، على نحو أريد له أن يكون موحياً بأن الخطر الذي يهدد العراق هو أولئك الإرهابيون، وان الذي احتلها هو جماعة بن لادن وليس الجيش الأمريكي. وفي طور آخر تواترت التصريحات الأمريكية محذرة من تسرب (الأجانب) القادمين من وراء الحدود، وكأن الأمريكيين اصبحوا هم أصحاب البلد والمواطنين المقيمين، في حين أن الخطر بات متمثلاً في أولئك (الوافدين).. وهكذا. كما الحاوي، صاروا يستخرجون كل حين حيلة جديدة من الجراب، لنتلهى بها بعض الوقت، حتى يبطل مفعولها أو يملها الناس فيستبدلوها بأخرى تشغل الأذهان وتثير اللغط، ومن ثم يظل الجميع مشغولين ومشدودين إلى أمور كثيرة ليس الاحتلال من بينها. (2) هل تندرج عملية تسريب صور التعذيب وإذلال العراقيين وهتك أعراضهم في هذا الإطار؟ حتى الآن لم يثبت أن توقيت التسريب متعمد لكن الشواهد تدل على أن القضية أصبحت موضوع الساعة وبؤرة الاهتمام. الأمر الذي صرف الانتباه عن تداعيات الاحتلال والمقاومة الشرسة له في الفلوجة والنجف وكربلاء. كما انه خطف الأضواء من كتاب الصحفي الأمريكي بوب وودوارد الأخير الذي كشف الكثير من أسرار غزو العراق، فأحرج الإدارة الأمريكية، وأقام الدنيا ولم يقعدها في الولاياتالمتحدة. وليس معروفاً ما إذا كان لذلك التسريب علاقة بالصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الانتخابات الرئاسية القادمة، وان كان الثابت أن الديمقراطيين سعوا إلى استثماره، وان ما جرى هز صورة الرئيس بوش وفريقه، وكان له تأثيره السلبي على موقف إدارته أمام الرأي العام في الداخل فضلاً عن الخارج. غير أن بعض الذين يشمون رائحة المؤامرة بسرعة فيما وراء الأخبار والأحداث. يرون في التسريب محاولة جهنمية لإذلال العرب وتمريغ أنوفهم في التراب. وقال لي أحدهم بأن ذلك السيناريو لا يستبعد، إذا استعدنا صور الرئيس السابق صدام حسين، وهو يستخرج من الحفرة التي كان يختبئ فيها، ثم وهو يقف ذاهلاً ومنكوش الشعر بين يدي من فتَّش شعره وفحص أسنانه، وإذا وضعنا إلى جانب تلك المجموعة شريط صور المعتقلين العراقيين وقد تكوموا عرايا فوق بعضهم البعض تارة، وقد جرد أحدهم من ملابسه ووضع طوق حول رقبته ثم جرته مجندة أمريكية كأي كلب مستكين تارة أخرى، وفي حين يبول عليهم بعض الجنود البريطانيين في لقطة ثالثة.. إلى آخر تلك الصور الفاحشة التي قالت (الواشنطون بوست) أن لديها منها ألفاً، تسجل مختلف مشاهد إذلال العراقيين والاعتداء على شرفهم وكرامتهم. سأل صاحبي: إذا ضممنا المجموعتين معاً، فماذا تكون النتيجة؟ ثم سارع بالإجابة قائلاً: إن الصور تبعث برسالة زاعقة إلى العراقيين والعرب جميعاً تقول: هذا اكبر رأس في البلد، ومن زعم بأنه حارس (البوابة الشرقية) وهذا هو شعب (النشامى) الذي عَّولتم عليه في الجبهة الشرقية، وهذا جزاء ومصير كل من تسول له نفسه عدم الانصياع للإرادة الأمريكية. إذا وسعنا من الدائرة قليلاً فسنجد أن معنى الإذلال وكسر الإرادة بصورة موغلة في المهانة يتكرس، والصورة تغدو اكثر وضوحاً، إذا ما أضفنا إلى المجموعتين السابقتين صور المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس بوش مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون في البيت الأبيض يوم 14/3، أطلق فيه الرئيس الأمريكي وعده البائس، الذي داس فيه بحذائه على أهم الاستحقاقات الفلسطينية، في إزالة آثار العدوان والعودة. إذ يظل القاسم المشترك الأعظم بين (وعد بوش) وما جرى لصدام حسين والمعتقلين العراقيين، هو أن الحدثين من الأفعال السياسية الفاضحة، وان ازدراء العرب واحتقارهم حاضر في ثناياهما بقوة. (3) في الصحف العربية عتاب على الإدارة الأمريكية لأنها لم تعتذر عما جرى في سجن أبو غريب، وان الرئيس بوش ووزيري دفاعه وخارجيته عبروا حقاً عن (صدمتهم) و (اشمئزازهم) من جراء ما شاهدوه في الصور الفاضحة، لكنهم بعد أن عبروا عن (مشاطرتنا) حزننا على ذلك النحو لم يعتذروا لأسر الضحايا أو الشعب العراقي. وذلك يذكرني بقصة الأعرابي الذي جاء إلى الإمام مالك ذات مرة يسأله عن حكم نجاسة دم البرغوث، فسأله من أين جئت، فرد الأعرابي انه جاء من العراق. وحينئذ قال الإمام مالك، بعدما استبحتم دم الحسين بن علي، تسألني عن دم البرغوث؟! السؤال ذاته يرد في الحالة التي نحن بصددها، إذ يحق لنا أن نسأل: بعد استباحة عرض العراق كله، ما قيمة الاعتذار عن استباحة عرض نفر من أهله؟ نعم ثمة جدل حول الموضوع في الولاياتالمتحدة، ليس متجهاً إلى استرضائنا بطبيعة الحال، ولكن محوره تحسين صورة الإدارة الأمريكية. في الداخل والخارج، وبوجه أخص إزالة أية تشوهات يمكن أن تؤثر على رصيد الرئيس بوش في حملته الانتخابية. ثم إن هناك حقيقة أخرى موجعة يتعين الاعتراف بها بشجاعة، هي انه ليس للعرب رصيد من الاحترام في الغرب عموماً، يدعو أي طرف فيه للاعتذار عن أية إساءة صدرت منه بحق العرب، لا في الماضي ولا في الحاضر. ذلك أن الضعفاء والمهزومين يستحقون الرثاء ولا يقدم إليهم أي اعتذار. ثم انه إذا كانت مصالح الدول الغربية في العالم العربي جارية على افضل ما تكون في كل الأحوال، فما الذي يدعوها إذا إلى التنازل عن كبريائها والتفكير في الاعتذار لهم. لقد اعتذر الفاتيكان لليهود عن الآلام التي أصابتهم من جراء موقف الكنيسة الكاثوليكية، أثناء اضطهادهم من جانب النازيين. وامتنع البابا حتى الآن عن أن يقدم اعتذاراً إلى المسلمين عن المآسي التي حاقت بهم بسبب الحروب الصليبية ومن جراء محاكم التفتيش، رغم انه اعتذر لليونانيين الأرثوذكس عما أصابهم من ضرر أثناء تقدم الجيوش الصليبية (الكاثوليكية) نحو القدس. واعتذرت أسبانيا عن طردها لليهود عقب استرداد الأندلس قبل اكثر من خمسة قرون، لكنها رفضت الاعتذار للعرب والمسلمين رغم أن الذين طردوا منهم أضعاف اليهود المطرودين، والذي بقوا منهم خيروا بين التنصير أو الموت. واعتذرت اليابان للكوريين عن ماضيها الاستعماري. واعتذرت بلجيكا لشعب الكونغو عن ذات الماضي وإعدامها للرئيس الكونجولي الأسبق باتريس لومبومبا. في حين تتردد تلك الاعتذارات في أنحاء الكرة الأرضية، فإننا لم نسمع أن دولة غربية اعتذرت للعرب والمسلمين، رغم تضخم سجل الجرائم بحق الإنسانية التي ارتكبوها في بلادهم. استثني من ذلك بلداً غربياً (غلباناً) مثلنا، هو البرتغال، الذي اعتذر رئيسه في عام 1997 جورج سمبايو، عن جرائم أجداده بحق العرب أثناء طردهم من أسبانياوالبرتغال في حقبة محاكم التفتيش. (4) في أحد كتبه، وعلى طريقته اللاذعة في النقد، ذكر الشيخ محمد الغزالي أن العرب تثور ثائرتهم إذا اعتدى على شرف امرأة في ديارهم، لكن الاعتداء على شرف الأمة لم يعد يحرك فيهم ساكناً. وكانت دعوته ملحة إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة التفكير عند العرب والمسلمين، خصوصاً فيما يتعلق بتوظيف القيم والتعاليم السائدة. فمفهوم الشرف مثلاً مهم على الصعيد الفردي والأخلاقي لا ريب، إلا أن حصاره في تلك الدائرة يعد ابتساراً لمعناه، يعبر عن قصور في التفكير والنظر. لان هناك شرفاً للأوطان وللامة كما أن هناك شرفاً للأفراد والعائلات والقبائل والعشائر. وفي اكثر من كتاب أثار الشيخ رحمه الله - بنفس الطريقة - قضية فروض الكفاية، التي تعرف في المفهوم الأصولي الشائع بأنها تلك التكاليف التي إذا قام بها نفر من الناس سقطت عن الباقين، بخلاف الفروض العينية التي يلزم بها كل أحد من الناس كالعبادات مثلاً. وانتقد المفهوم الضيق لفروض الكفاية الذي يحصرها في مسائل محدودة مثل غسل الميت ودفنه، أو في بعض الوظائف كالإمامة والقضاء والفتيا. في هذا الصدد فانه دعا إلى توسيع الدائرة بحيث تشمل الفقر والتخلف والأمية، وغير ذلك من الأمراض المزمنة التي أصابت مجتمعاتنا بالوهن والعجز. وقال: إن تلك أيضاً فروض يتعين القيام بها، وهي كفائية إن قام بها البعض، لكنها تغدو واجباً شرعياً عينياً إذا حدث تقصير في أدائها، حيث يتعين على الجميع أن يحتشدوا لأجل النهوض بها. هذه الطريقة في التفكير تدعونا أيضاً إلى توسيع دائرة التعامل الشرعي مع فكرة الغزو، لأن إجماعا منعقد بين فقهاء المسلمين على انه إذا تعرضت ديار الإسلام للاحتلال فان الجهاد يصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة، فالابن يخرج بغير إذن أبيه والزوجة بغير إذن زوجها والعبد (في ثقافة ذلك الزمان) يخرج بغير إذن سيده. وهذا المفهوم إذا انطبق على احتلال الأرض فلماذا لا نطبقه أيضاً على احتلال الارادة، وهو أحد الأشكال التي استحدثت للغزو بطريقة اكثر مكراً واشد خطراً. لان ذلك الاحتلال الأخير يمارس من وراء ستار، من جانب قوى غير ظاهرة، في حين أن الهدف اكثر وضوحاً في حالة احتلال الأرض، الأمر الذي ييسر إدراك العدو فيه وتعبئة الناس في مواجهته. وهذا التطور في مفهوم الاحتلال ينبغي أن يستصحب معه تطوراً مماثلاً في أساليب الجهاد، الذي يوسع التراث الفقهي من ساحته حتى يشمل (القلب والجنان، والدعوة والبيان، والسيف والسنان)، كما ذكر ابن القيم في (زاد المعاد). (5) مقولة الشيخ الغزالي اكثر ما تنطبق على زماننا، لان الغضب العارم إزاء تعذيب بعض العراقيين والاعتداء على شرفهم، الذي عبرت عنه وسائل الإعلام العربية، وترددت أصداؤه فوق منابر المساجد وفي مختلف المنتديات، هذا الغضب لا يكاد يقارن بالمشاعر التي أصبحت تحيط الآن بالعراق المحتل، أو تلك التي أصبحنا نستقبل بها ما يحدث من انتهاكات فاحشة في أنحاء العالم العربي والإسلامي. إذ لست أبالغ إذا قلت بأننا في زمن (الأفعال السياسية الفاضحة)، حيث يعد كل فعل منها بمثابة اعتداء على شرف الأمة و (رجولتها)، إذا صح التعبير، يفترض أن يستنفر أهل المروءة والإباء. فالقواعد الأمريكية التي أصبحت منتشرة في أنحاء العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وهذا الخضوع المهين لاملاءات واشنطون حتى فيما يتعلق بأخص أمورنا، وهذا العجز المذهل حتى عن انتقاد السياسة الأمريكية، وذاك الافتراس البشع المقترن بالازدراء للشعب الفلسطيني الذي اصبح محل مباركة وتشجيع من جانب الولاياتالمتحدة، ثم هذا الذي يجري فرضه على السودان الآن تمزيقاً وتركيعاً، والتلويح به لسوريا لتأديبها وإخضاعها، ذلك كله يعني شيئاً واحداً هو أن الاعتداء على شرف الأمة يمارس بشكل منتظم وبصورة شبه يومية. يعني أيضاً أن ما حدث في سجن أبو غريب ليس سوى نقطة في بحر الهوان الذي أغرقتنا مياهه برائحتها الكريهة والعفنة. إن شئت فقل إنه مجرد نموذج مصغر لما يراد أن ينتهي إليه العالم العربي. ذلك انك إذا جمعت الأوصاف التي أطلقتها وسائل الإعلام على ما يجري هناك، ودققت فيها جيداً، فستجد أنها مرشحة لرسم صورة ومستقبل المشهد العربي. وستدهشك المفارقة، حين تستذكر التصريحات التي تواترت مشيرة إلى أن الأمريكيين يريدون للعراق الذي احتلوه لتأديبه وتهذيبه وإصلاحه أن يكون (نموذجاً) يحتذى به في العالم العربي، الذي زفوا إلينا قبل عام بشرى التوجه نحو إعادة رسم خريطته. لقد تحدثت وسائل الإعلام وأبرزت الصور ما تعرض له العراقيون من تعذيب وتجويع وازدراء وإذلال وكشف للعورات وعبث بها، وعدوان على الشرف والرجولة، وغير ذلك من البشاعات التي يقشعر لها البدن. ولكني أتساءل أليس ذلك بالضبط ما حدث للعراق الوطن، الذي جرى تدميره واستخدام الأسلحة الفتاكة والمحظورة لترويعه وتركيعه، ونهبت آثاره وسرق تاريخه ووثائقه، وتمت تصفية اكبر علمائه، ثم سلمت مقاليده إلى الذين جاءوا على الدبابات والطائرات الأمريكية، وبعضهم لا يزال يتقاضى راتباً شهرياً من وزارة الدفاع الأمريكية. لقد سكتت الأغلبية على ذلك كله وقبلت به، لكنها استشاطت غضباً واستثيرت حينما ظهرت صور فضائح سجن أبو غريب، وتلك الأغلبية التي مررت الفضيحة الحقيقية في العراق، هي ذاتها التي استنامت واستسلمت للغفلة التي مررت مختلف الأفعال السياسية الفاضحة التي تحدث في العالم العربي تحت سمع وبصر الجميع. (6) إنني أرجو ألا نركز أبصارنا فقط على ما جرى ويجري في المعتقلات العراقية، رغم أن أحداً لم يذكر شيئاً عما تعرضت له 150 عراقية محتجزات داخل تلك المعتقلات - أسماؤهن مذكورة على الإنترنت - وليت الإعلام العربي يخفف من متابعته لذيول القضية وأصدائها في الولاياتالمتحدة، لأنني لن استبعد أن تنتهي التحقيقات بإرسال خطابات توبيخ لبعض الضباط، والتوجيه بالحد من الاستعانة بخبراء التعذيب الإسرائيليين في المعتقلات العراقية، ومنع الجنود من حمل آلات التصوير معهم داخل المعتقلات! ليتنا ننشغل بما هو أهم وأبقى، فنطرح على أنفسنا السؤال الكبير حول كيفية إنقاذ شرف العراق وشرف الأمة. أما إذا عجزنا عن الكلام والفعل، فسوف نضيف إلى السجل عنواناً فاضحاً جديداً يشين جيلنا وزماننا حتى تقوم الساعة.