اذا كنت لا تستطيع رؤية الحقائق هذا لا يعني أبدا انها غير موجودة حتى لو سوق لك ذلك مفكرو الامبراطورية الجديدة الذين اصبحوا من المساهمين الفاعلين في توسيع واعادة انتاج الاستعمار، وذلك عبر تسويقه بصيغ مقنعة (بالعقلانية) رغم التناقض المؤكد بينهما. ان المقصود هنا هو عدد كبير من المفكرين العرب الذين اختزلوا وظيفتهم من منتجي ابداع مفيد الى مهرجين على شكل مبدعين في قيادة الحملة الاعلانية والتسويقية لما يريد المستعمر تكريسه في كيان الامة، وهذا سيؤدي الى كوارث عدة من اخطرها : 1- خسارة طاقات فاعلة ستتحول من عماد الى اسفين ليشرخ دعائم الامة. 2- الفراغ الفكري وبالتالي الوجداني الذي سيتركه غياب القيادات الاجتماعية عن القيام بدورها المطلوب، وهذا الفراغ الذي سيسد ويردم بشعارات واهداف سيسوقها المسيطر والتي ستتعارض حتما مع مصلحة شعوبنا ودولنا لكنها بالطبع ستتقاطع مع مصالح الغرب المستعمر. فقدان الثقة بالمثقف ودوره سيشوه علاقتنا بالجانب الفكري وبأهمية وظيفته في حياتنا، وهذا قد ينعكس بشكل او بآخر على سلطة (القدوة) وفحواها، وهذه الخاصية هي التي تلعب دورا اساسيا في تكوين شخصية الفرد بل وتحدد معالم سير مستقبله لاحقا، ولعل الخوف هنا يتمركز حول سيطرة بعض النماذج المريضة والمتعفنة على رمز القدوة الذي بات مغيبا بسبب تقاعس بعض الفعاليات عن القيام بأدوارها، فتخيل لو قامت بسد هذا الفراغ على سبيل المثال راقصة او مهرج خنفوس، او حتى بطل سينمائي يجسد دور قاتل محترف وغير ذلك من النماذج المستوردة والمحلية والتي تعج بها مجتمعاتنا العربية، فالى اين ستقود امتنا هذه النوعيات الهابطة؟ والى اي درك سينتهي مصير اجيالنا؟ ومن الذي يتحمل مسؤولية ذلك؟ ان المسؤولية هنا تلقى على عاتق اقطاب عدة، منها تلك التي سلمت اوراق اعتمادها الى المجهول ففقدت نطقها وافقدت الوطن وعيه وقواه، والمسؤولية مشتركة بين كل من تخلى عن دوره مثل المثقف الذي تخلى عن دوره لاعتبارات خنفشارية، وتخلى الاب والام عن دوريهما لاعتبارات اقتصادية وتخلت السلطة عن دورها لاعتبارات سفسطائية، اما أسوأ سقطة والتي سيعجز التاريخ عن تحديد واحصاء خسائرها، ستتم يوم نخضع ديننا وتراثنا وتاريخنا الى عملية تجميل مستوردة لتتناسب مع ما تفرضه القوى الخارجية بالقوة. لعل المؤلم في عملية الانحدار، هو غياب الحرص والتعقل عن خطواتنا المصيرية وحضور الغيبوبة في مواقفنا الحياتية البسيطة، أليس غريبا ان نعرف ما هب ودب عن الاساليب المطلوبة لحماية غرفة الجلوس المستوردة اكثر مما نعرف عن حقيقة المخاطر التي تتهدد امتنا؟ أليس من العار ان تنحصر هموم المرأة العربية في عمليات التجميل والسير خلف صرعات الموضة، والتنافس على ركوب موجة المعاصرة لترمي هموم اطفالنا على خادمة مستوردة او حاضنة اطفال متفرنجة؟ عندما تسيطر ثقافة (الاقتناء) المستورد على احلامنا واهدافنا، وعندما تنحصر مشاكلنا وهمومنا في الحصول على آخر صيحات الغرب بمختلف انتاجه، سنكون كمن اشترى كارثة ليضيفها الى مجموعته المعتقة من المشاكل المتراكمة على جبين امته منذ اجيال، والمتروكة دون حلول ناجعة. يبدو ان احرف الجمل المفيدة في ابجدية اولياء امتنا باتت شهيدة، اذ ان الحرب الوحيدة التي نخوضها منذ القرن الماضي وبمنتهى البراعة هي حرب الالغاء الداخلي ضد انفسنا وضد ابنائنا حيث اخذنا على عاتقنا تبادل الاتهامات والشتائم بدلا من تبادل الهموم لتحديد مصادر المشاكل المتراكمة وايجاد الحلول لها قبل ان يسبق السيف العذل، وقبل ان تصبح المشاكل في حياتنا كالصبغة الوراثية اي لصيقة بنا وحتى الموت. هناك من يقول : ان المشكلة تكمن اساسا في تعثر اختيار الطريقة الصحيحة للعلاج ما دام هناك فئات تفترض ان كرامتها فوق كرامة الاوطان، وان منطقها هو الصحيح (والصحيح) هنا سيعني بالضرورة فرض رأي لا يسمع سوى صوت نفسه ولا يعنيه بتاتا ايجاد ارض مشتركة مع الآخرين لانقاذ ما يمكن انقاذه. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : هل نوعية وحجم مشاكلنا تتحمل طرحا كهذا؟ هل مازلنا نملك الوقت والامكانيات لتمييع الحقيقة ومحو النقاط ووأد الحروف؟ هذه الحالة المزرية تشبه حالة مريض يحتاج الى عملية طارئة، وحوله مجموعة من الاطباء الذين يتصارعون، لان كل واحد منهم يصر على فرض طريقته في المعالجة، والنتيجة هي موت المريض الضحية او اعاقته جراء خلاف أناني : حالة المريض المحاط بالمتصارعين تشبه حالنا، والواجب يقتضي ان نعي قبل فوات الأوان ان حماية اوطاننا تتطلب منا الكثير من التعقل والتبصر والامانة والوفاء والتعاون فيما بيننا، وان الاستعمار مهما منحنا من (نياشين) فهو يتعامل معنا مثل تعامل الصياد مع الطريدة. لهذا لابد لنا من وضع النقاط على الحروف لعلنا نتمكن من انقاذ بلادنا وضمائرنا التي باتت على قاب قوسين من الخطة (الخمسية) للتعديل الجيني، هذه الخطة التي ترمي الى تحويلنا الى شخصيات هامشية مستلبة عديمة الحرية والتعبير، والرد الوحيد على هذه الخطة الجهنمية هو رفض الاستلاب باسم الحرية، ورفض التسيب باسم الديموقراطية، ورفض الذوبان في الآخر باسم العولمة والانفتاح، لعل الرفض يساعدنا على مد يد العون لأوطاننا التي اوشك ان يكتسحها طوفان الآخرين الطامعين.