ما زلت أذكر ما كنت أسمع عنه نهاية الخمسينات من «تظاهرات» كانت تقام في المساجد ضد المستعمر الفرنسي. كانت هناك تظاهرات تنزل إلى الشارع، إلا أنها لم تكن كثيرة قياساً بما كان يقام داخل المساجد مما كان المغاربة يطلقون عليه «طلب اللطيف». سيعرف المغرب في ما بعد، وبطبيعة الحال، نزولاً متكرراً إلى الشارع، وقياماً بتظاهرات صاخبة كتلك التي عرفتها بعض المدن التاريخية مثل فاس وسلا والدار البيضاء...، إلا أن هذا النزول كان يبدو أمراً مستجداً، ومظهراً من مظاهر الحداثة التي نقلها الاستعمار الفرنسي إلى المغرب. ذلك أن تظاهرات المساجد كانت تتوجه نحو الإله لإنزال لطفه وإنقاذ عباده من ظلم المستعمر وطغيانه، المخاطب هنا هو الكائن الأسمى، والمتظاهرون هم عباده. أما المظاهرات التي أخذت تعرفها أهم المدن فكانت مخالفة لذلك أتم المخالفة، لأنها كانت تصدر عن جماهير تتوجه بخطابها نحو المستعمِر وترفع شعارات، لا طلباً للطف الإلهي، وإنما مقاومةً للاستعمار، وتحريراً للبلاد. فليست الجماعة المتظاهرة هنا حشداً من «عباد الله»، وإنما شريحة من الشعب المغربي تطالب بتحرير الوطن. يؤكد المؤرخون أن هذا الشكل من التعبير عن المطالب بالنزول إلى الشارع في تظاهرات عمومية، والجهر بالمطالب أمام الجميع وفي واضحة النهار ظاهرة حديثة تبلورت أثناء الثورة الفرنسية، وهم يعتبرون أن الهجوم على الباستيل هو الدخول الفعلي ل «الشعب» في الحياة السياسية، حيث اتضح أن النزول إلى الشارع هو الشكل الوحيد الذي تجد من طريقه الجماعة وسيلتها للتعبير عن مطالبها كجماعة موحدة. هنا غدا اللجوء إلى الفضاء العمومي هو أكثر وسائل التعبير مباشرة. فهذا «النزول» لا يكتفي بأن يظهر للعيان أن هذه الجماعة تطبعها الوحدة، وأنها «جسد واحد»، وإنما أنها مصدر كل معيار، ومنبع كل سيادة. لعل هذه الأصول التاريخية هي التي ما زالت تجعل من باريس، وإلى اليوم، مدينة «النزول إلى الشارع». يقال إن الباريسيين ينزلون أكثر من 3000 مرة سنوياً، ولمطالب تبدو في بعض الأحيان أنها لا تستدعي ذلك، ويكفي فيها ربما تقديمها كأوراق موقعة. إلا أن الباريسيين يدركون أن المطلب يتخذ شكله المشخص عندما يتجسد في مجموعة تتحرك حركة واحدة، وتصرخ الصراخ ذاته، وتتوجه إلى المقصد عينه. ناهيك عن أن المدينة نفسها قد تضيف إلى التظاهرة قوة بما تحفل به من ميادين وفضاءات تحمل دلالات رمزية قوية، ومعاني تاريخية عريقة. تبدو لنا أهمية ذلك إن نحن قسناه على ما يتم في بعض الأحيان من احتجاجات تتخذ جوار البيت الأبيض مركزاً لها، حيث نعجب لضحالة عدد المشاركين في التظاهر، ولضعف الشعارات المرفوعة، بل ولبرودة التظاهرات بصفة عامة. الأمر مخالف لذلك أتم المخالفة لما أخذنا نلحظه في بعض عواصمنا العربية التي غدت معقل التظاهرات المليونية، والتي أصبح النزول إلى الشارع فيها، وإلى الميادين ظاهرة مألوفة. صحيح أنها قد تضم في بعض الأحيان، وفي الوقت ذاته، «الجماهير» و «عباد الله»، إلا أنها تثبت مع ذلك، وبكيفية تدريجية، وعي الشعوب العربية بأنها أساس كل معيار ومصدر كل سيادة. * كاتب مغربي