في جميع ثقافات الشعوب ، يعتبر الشعر صوت ضمير الأمة والمتحدث عن همومها ومتاعبها، والقادر على إبقاء قضاياها حية في أفئدة ابنائها, كما أنه أي الشعر قادر على فتح مسارات الإصلاح أمام المصلحين, وتهيئة المناخ العام لحركة الإصلاح، ويخيل لي أن الشعر غير القادر على التغلغل في مشاكل المجتمع والتماس مع مشاكل الإنسان ، شعر غير جدير بالاحترام مهما كانت قيمته الفنية عالية، لقد كتبت ملايين القصائد التي تتحدث عن الاهتمامات الفردية للشاعر، ولكنها لم ترسخ في ذاكرة الأمة، بل ربما أن أغلب هذه القصائد التي ذهبت مع الأيام، كانت عبارة عن ترف شعري لم يحقق ولن يحقق إلا إسباغ الشاعرية على هذا الاسم أو ذاك، بينما رسالة الشعر اكبر من ذلك بكثير . أن من يفتش في ذاكرة وجدان الآمة العربية, سيجد صوت قصيدة فلسطين ، التي كتبها شاعر الرومانسيات المصري على محمود طه عام ( 1949 م ) والتي مطلعها ( أخي جاوز الظالمون المدى ) ما يزال نديا ً ومتجددا ً ، وكأنها كتبت يوم أمس، بينما هناك آلاف القصائد التي كتبت خلال الشهر الماضي فقط، ولكنها لم تدخل وجدان الآمة حتى يصبح لها صوت يسمع ..!! وبدون تجن أو إقصاء أو تجريد يبدو أن تجربة الشعر الشعبي لدينا، بكل شعرائها ونصوصها وأعلامها ( إن كان لها أعلام ) وإعلامها المقروء والمرئي والمسموع، قد أخذت هذا المنحى فأصبحت تدور في مدارات هامشية مظلمة، مما جعل التجربة الشعبية معلبة تمارس الدوران حول نقطة واحدة، وهي احتياجات الشاعر ومشاعره وردود أفعاله تجاه تحقيقها أو تعذرها، حتى أنه يخيل للمتأمل للقصيدة الشعبية أن الشاعر الشعبي سجين ذاته، وأنه لا يعرف عن أمته شيئا، وأمته هي الأخرى لا تعرفه ، و بكل تأكيد أن هذا الانغلاق الذي يمارسه الشاعر الشعبي على ذاته له أسبابه التي فرضته على الشاعر، فلا يمكن أن يكون هناك شاعر، لا يتمنى أن تردد أشعاره على ألسنة الناس في المنتديات و البيوت والمكاتب والطرقات لتمنح الشاعر انتشار اكبر وحضورا ً اجمل، فما حدث لأغنية شعبان عبدالرحيم (أنا أحب عمرو موسى) و التي بالرغم من ركاكة كلماتها وبدائية طرحها وعدم صلاحيتها كقياس فني يمكن الرجوع إليه يدل على أن الأمة مسكونة بوجعها، فهذه الأغنية بكل تخلفها حملت مغنيها بكل فراغه فوق أجنحة الخيال، لأنها تحدثت بلغة بسيطة وبلهجة شعبية عن هم أمة وقضية شعب، في امتنا العربية بكل آسف آلاف المشاكل القومية والإقليمية، والتي ينتج عنها كل صباح عشرات المشاكل من جهل وفقر وخوف، ومشاكل متعلقة بالحياة اليومية للإنسان البسيط، ولكن الشاعر الشعبي يهرب منها نتيجة خوفه وتردده ومحدودية قدراته، و يقفز إلى الدوائر التي اعتاد أن يكتب فيها، وهذا القفز يمثل قصورا ً فكريا ً وتكرارا ً شعريا ً جعل النص الشعبي ترفا ً باهتا ً لا مكان له في أفئدة مثقلة بالهموم. قد يقف أحد المدافعين عن الشعر الشعبي ويقول, ان هذا هو المجال المسموح الكتابة فيه, و هذا ما يريده إعلام الساحة، وهذه الأعذار غير حقيقية ولكنها أعذار مختلقة، لا تعدو كونها هروبا إلى الأمام، فمن الذي منع شاعرا أن يتحدث عن أرملة فلسطينية أو عن طفل عراقي أو عن يتيم جزائري، أو عمن لا يجد عملا أو سكنا في هذا البلد أو ذاك، من هو الشاعر الشعبي الذي تحدث بعمق عن الأزمة التي مرت بها مملكتنا الحبيبة ..!! واخذ نموذجا لطفل رجل أمن قتل وهو يؤدي واجبه . من هو الشاعر الشعبي الذي تناول الحملة التي تشن على المملكة من قبل وسائل إعلام لها أهدافها ( المعروفة ) والتي للآسف بعضها تبث من دول مجاوره .! . لا تقولوا لي فلان ذكر ذلك في بيت . أنا لا أقصد التناول السطحي . بل أشير إلى التناول العميق الذي يذهب إلى جوهر الأشياء ويحيل النص إلى صوت منتظر يأخذ المتلقي من قصيدة الحالة إلى قصيدة الإحالة التي تجعله ينظر للأمور بوعي وإدراك ويمنح النصح قيمة عجز عن الوصول إليها من خلال التردد على دوائر الغريزة ومربعات الحاجات الضيقة . أما إن كان الشاعر يكتب ما يريده إعلام ساحته الشعبية فهو غير جدير بلقب شاعر بمعناه الحقيقي . أما المعنى المتداول لهذا اللقب المثير في ساحة الشعر الشعبي فقد حمله من يعيش في الحدود الدنيا للإنسانية مما جعل حمل هذا اللقب عارا و شبهة على حامله.