(قطرات من الدموع) لسميرة بنت الجزيرة.. تحمل أكثر من عتبة للنص تتمثل احداها في العنوان مما يدفع بالقارىء لأن يتساءل لماذا هي قطرات وليست ذرفا للدموع, أهي قطرات توحي بالحنين لماض اندثر؟ ام هي قطرات دموع لوجع يتجدد؟ ام هي تعبير عن حسرة لعجز عن بلوغ المنى؟ أيا كان تفسير هذا الدفق المستمر والمتقطع للدموع فهو يعني ان حالة الشجن والانكسار تغدو مصاحبة لأنثى تقف عاجزة عن مغالبة الدموع. ويأتي الاهداء كنص مواز ليشكل على المتلقي حالة جريان الدموع هذه اذ يتقدم السرد نوعان من الاهداء إحداهما الى الأب, المثل الأعلى, الطبيب العصامي (الذي بتر بمبضعه آلام المرضى وسقاهم كؤوس الشفاء) والذي مهد لابنته طريق المعرفة.. حتى وصلت الى شاطىء الأمان بعد ان رافقها في (دروب الحياة ومتاهاتها) لتكشف الكتابة في اهدائها الثاني عن تلك (الروح القلقة.. المعذبة) التي تبحث عن (الحنان.. عن الحب.. عن الدفء..) ويستمر هذا البحث بغية ان تضيء الحياة على (شاطىء الذكريات الحبيبة) هربا من جحيم الحرمان ويكون خير رفيق لها قطرات الدموع. فكأن الخطاب الأنثوي يتصدر منذ البداية ليعترف بالامتنان والتقدير لسلطة الأب المتعلم الذي يقتلع الألم والجهل من مكامنه ويأخذ بيد ابنته في رحلتها الحياتية نحو النضج المعرفي والاستقلال الذاتي ليؤمن أسباب العلاج والدواء لجروح مجتمع هي نصفه, وتقابل هذا العطاء الذكوري الواثق روح انثوية قلقة تواقة للحنان والهدوء النفسي والتعبير عن ذاتها حتى تقف في صفوف شقائق الرجال. وتسعى الكتابة لاستجلاء ذلك الدور المهم الذي يلعبه الاب حيال ابنته عندما تعرض سلطة الأب الذكورية من خلال الشيخ محجوب الذي نسمعه من الصفحات الأولى للرواية ينادي ابنته بالشقية ويشير اليها بنفس الكنية لا لسبب إلا لأنه لا يدرك ان ما يعطي الأنثى كيانها وهويتها انما هو امها رغم انه كان يدللها ويمتدح جمالها. وذكرى مع ابيها تسلم بذلك ومع أمها نسمعها (تكلم نفسها بصوت مسموع: حتى الكلام ممنوع.. انك ياأماه لا تحبين الاصغاء لحديثي). (ص19) ذلك انه عندما تتلبس ذكرى شهوة الحكي في اخبار أمها بما تسمعه من أحاديث أبيها وأصدقائه تجدها تصغي في شغف, ولكنها تمنعها من البوح بمكنونات نفسها والتعبير عن خوفها من الزواج ان عمها الذي يكبرها بسنوات.. ولعل أمها نفسها لا تعي كيف يكون بوح المرأة بخلجات نفسها فهي ذاتها تلجأ الى البكاء عندما تغمرها سحابة حزن او يسيطر عليها يأس فيما تحسه من عاطفة تجاه عامر الذي وجد سلوته في نظم أبيات الشعر وقصص المحبين ومناجاة أنجم الليالي, وحتى في وداعه الأخير برقية (لم يترك لها فرصة الكلام).(ص52) وهو (اقوى أسلحة المرأة في الجاذبية) كما تقول فاطمة المرنيسي في (العابرة المكسورة الجناح) (ص57). ويبلغ القمع أشده عندما يصر الشيخ العجوز على حرمان ابنته الوحيدة من فرصة التعليم التي كان سيعطيها للابن الذكر تبعا لعادات وتقاليد وأعراف المجتمع الذي ينتمي اليه مغفلا احتياجات الابنة والوريثة والوحيدة. ولكن عندما يعود الشيخ محجوب من الخرج ويجد ابن اخيه يحادث زوجته ينقض عليه ليرديه صريعا ويرتضي لابنته ان تنظر و(ترتجف خوفا ورعبا) (ص56) ليسحبها أحد الرجال ويقيدها بالحبال ويبقيها في خيمته حتى يصحبها الأب الى ساحة الرجم لتشهد اقامة الحد على أمها البريئة متجاهلا كل محاولاتها بتوضيح الأمر مبالغا في اسكاتها بأقذع السباب والتهم. فتلجأ الشاهدة الوحيدة التي ألجمها الموقف الى البكاء والنحيب كأهون أساليب الرفض. والمؤلفة هنا توظف هذه الواقعة لتدفع الى السرد بشحنات من النقد الاجتماعي تبدأ معالمه في اشهار صوت المنطق الذكوري عندما يشجب في مرارة وثورة (ص63) شابين واقفين في ساحة الرجم ما فعله الزوج وشيخ القبيلة. فاختارت المؤلفة الشخصية الذكورية الشابة لتظهر اخطاء مجتمع غلب عليه الموروث الاجتماعي القبلي, بينما يقابل ذلك الاستنكار أنين خافت في محاولات الأنثى للانزواء والعزلة. ولما ادركت ذكرى حالة اليتم التي آلت اليها ضعفت عن مواجهة حياة ملؤها الظلم والاستبداد الذكوري وسلمت بعجزها. فبنت الجزيرة بهذا تحيل القارىء الى ذلك الوقت حين كانت فيه الأنثى هي (البكماء السليبة ثقافيا وماديا) (العابرة: 42) ولا تتركها لحيرتها بل ترسم لها دربا نحو العلم تجد فيه المرأة شموعا تضيء لها الطريق. ففي معهد الصم والبكم (تشرق شمس جديدة في حياة ذكرى.. في المعهد.. مشمولة برعاية المديرة, وعناية المدرسات.. وحب الزميلات.. (ص71) وتكسبها السنون في المعهد شغفا بالقراءة وولعا بالكتابة تبدأ معه كتابة مذكرات تختزل فيها ماضيا تؤنسها فيه (قطرات الدموع) (ص72) فعندما تتجرد المرأة من أقوى أسلحتها لا بد لها ان تبحث عن صور أخرى لمقاومة الاستلاب. فذكرى الفتاة العزلاء في جدار من الصمت لم تردها الكاتبة أبدا ان تكون مسلوبة الإرادة بل جعلتها ثرية المشاعر قادرة على البذل والعطاء وكسب حب الجميع. ويصبح عجز الفتاة وعزلتها سببا في انتقال البطلة الى العاصمة للدراسة في معهد الأمل ليفتح لها العلم آفاقا الى العالم الخارجي ويؤهلها للعمل كمشرفة بالمعهد لتحقق استقلالا يمكنها من تخطي المعوقات الذاتية وتلمس بواطن الضعف فيما حولها لتكتشف (وجوب التغيير الشامل بالمنطق العلمي السليم لهذا المجتمع الكبير). ويأتي هذا التغيير الاجتماعي الذي تنادي به الفتاة العزلاء عن طريق الدكتور عاصم, السلطة الذكورية . فبحكم مهنته وتخصصه في الطب النفسي استطاع منحها فرصة المشاركة والعمل ليساعد في تشكيل رؤيتها الخاصة للحياة بعد ان كانت (دمية تتحرك بدون هدف ولا وعي) (ص89) وأصبحت تسعى لملء فضاء المكان بحب الناس ومساعدتهم وتحرير ذاتها من تلك الصورة النمطية السلبية التي حكمت عليها بالتبعية لتقاليد موروثة بالية اتسمت بالقمع والاقصاء. واستعادت ذكرى ثقتها بنفسها واحبت من حولها وتمكنت من التحدث معهم (كل بطريقته) (ص85) هذا التواصل مع زميلاتها شجعها على الكتابة للتعبير عما يعتلج داخلها في حواراتها مع الآخرين بعد ان كانت الكتابة عندها حكرا على المذكرات التي كانت بالنسبة لبطلة الرواية أشبه ما تكون بحديث مع الذات تسرد فيه احداثا مرت بها مضمنة داخل السرد الاطار الرواية. ويتيقن الطبيب عن طريق هذه المذكرات من انها تبادله نفس المشاعر فيعرض الزواج عليها. وبذلك تشكل مذكرات البطلة جزءا أساسيا من بنية السرد خاصة ان الذات المتكلمة هي الطاغية في بقية أجزاء الرواية عندما يستحيل الخطاب وتضطر الى الإشارة كوسيلة للبوح لانها ترى نفسها (أنثى مبتورة أنوثتها). تعالج المؤلفة هذا الاحساس بالعجز عند بطلتها بنقلها الى العمل في مكةالمكرمة حتى تنعم بالأمن النفسي الذي يكتنفه المكان. وكبقية رواد السرد المكيين تبقى مناسبة الحج لازمة روائية لدى بنت الجزيرة تضفي بها زخما روحيا وتحتفي بقدسية المكان وتزدهي به عبر الأزمنة. ولعل ما يميز وصف الكتابة هو الأسلوب الأنثوي في اعطاء التفاصيل الدقيقة ونقل القارىء بحميمية مألوفة الى فضاء عرفات وجنبات الحرم المكي الشريف والكعبة المطهرة يستشعر معها (جلال الخالق وجمال المكان) وتشهد ذكرى في مكة انتقالا الى حياة أرحب تبعث في طياتها إحساسا بالأمان يمدها بقدرة على المواجهة واتخاذ القرار حين تخط من هناك رسالة تبوح فيها بأحاسيسها بعد (طول بكاء.. وأنين). تتتابع الأحداث في الرواية حتى تصل الى ذروتها في صراع السلطة الذكورية المتعلمة الواعية مع سلطة تقاليد اجتماعية يفرضها الأب في رفضه زواج ابنه من (صماء لا أصل لها ولا فصل..) يتبلور هذا الصراع ليصبح احد دعامات النقد الاجتماعي الذي أرادته المؤلفة في شكل تمرد أعلنه عاصم في الجزء الثالث عشر من الرواية على السلطة الأبوية. وتستشرف بنت الجزيرة مرامات التغيير الاجتماعي عندما يعلن الطبيب عاصم عن رغبته في الاقتران بفتاة بكماء معارضا رغبة والديه وزملائه ومتجاوزا التقاليد الاجتماعية والطبقية التي لا تتردد في تسديد الضربة تلو الأخرى لأنثىلا تزال تعتبر عزلاء رغم ما حققته من تعليم ومشاركة في المجتمع.فهذا الرفض للتقليد والموروث بدأ في الصحراء في حياة المجتمع البدوي المعزول من أنثى خاضعة ومستسلمة واشتد بتمرد واصرار دعمته المدنية والسلطة الذكورية المستنيرة ولكن سرعان ما انهزم أمام قيم ومعايير اجتماعية هشة تتبدل عندما يتغير حال ذكرى وتتدفق عليها الأموال من وراء بوح ابداعي روائي عنونته (مذكرات خرساء) سطرت فيه آلام فقدها حبيبا غيبه الموت وتهدمت بغيابه جسور الوصل ليس فقط مع الآخر بل مع مجتمع كانت هي احدى ضحاياه. وبذلك يتطور السرد المضمن المذكرات في حنايا السرد الإطار ليخرج وليدا مستقلا في شكل عمل روائي يولد عند ذكرى رؤية واعية ومكتملة لمجتمع عاشت في كنفه وصدقت أباطيله لتجرب مختلف أشكال البوح في تصالحها مع ذاتها ومع مجتمع يكون فيه المال وحده قادرا على الغاء الاعاقات البشرية ومنح التقدير الاجتماعي. ان وعي ذكرى بحال مجتمعها اكسبها قناعة وتسليما بعدم جدوى التغيير الذي ارتجته في البداية, وعلمها كذلك ان تكشف وبشكل ساخر الوانا من التملق والنفاق الاجتماعي. ذلك الزيف الاجتماعي لم يتوان عن التخلي عن السلطة الذكورية بل وإلغائها بعد ان اتخذها ستارا له. فما كان من ذكرى إلا ان تركن الى مناجاتها لعاصم كأفضل أشكال البوح في عالم يلفه الصمت والوحدة والمال والشهرة. وان استقرت ذكرى الى أقوى أسلحة النساء وهو الكلام فهي تمتلك حسا وأدبا اوجدتهما المعاناة وغذتهما الثقافة ورعتهما الإرادة لتتعايش مع الزيف والألم. دكتوراة في الأدب الإنجليزي - تخصص مسرح