رسم المسلمون يوم البارحة - الذين اتوا من شتى اصقاع الدنيا داعين، ملبين، ورافعين اكف الضراعة للمولى - عز وجل - ان يتقبل منهم صالح اعمالهم وان يلطف بأمة تكالبت عليها الظروف، واحاط بها الاعداء من كل حدب - صورة ولا اروع من صور الوحدة الاسلامية. ... جموع من الموحدين جاءت من كل حدب وصوب تاركة الأهل، والولد، والاحبة لاداء الركن الخامس من اركان هذا الدين الحنيف ملبية نداء المولى - عز وجل - القائل في محكم التنزيل (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله في ايام معدودات). ... جاءوا يرتدون لباسا واحدا، ويجتمعون في مكان واحد، ويؤدون شعيرة واحدة حاسرين الرؤوس في صورة ولا ابلغ على مدى ما حققه ويحققه هذا الدين الرباني الخالد، من (وحدة انسانية اصيلة)، ومن (مساواة ربانية أبدية) لم تفرق يوما من الايام بين بني البشر انطلاقا من ألوانهم، او أصولهم، او خلفياتهم الاقتصادية، او الاجتماعية الا بمقدار شحنة الايمان التي تملأ صدورهم وافئدتهم مصداقا لقوله تعالى: (ان اكرمكم عند الله اتقاكم). ... انها الصورة الحقيقية للامة الاسلامية التي وحدتها شهادة (أن لا اله الا الله، وان محمدا رسول الله) قبل ان تفرقها اللعبة السياسية في عالم لا يقيم وزنا لمبادئ او قيم، وبعد ان وجه الاعداء لها حرابهم المسمومة التي ما فتئت تغرس في احشائهم، وصدورهم لا لشيء الا انهم قالوا (ربنا الله). ... هنا داست اقدام ابراهيم الخليل عليه السلام، وابنه اسماعيل الثرى واللذين روى القرآن الكريم قصتهما في صورة ولا ابلغ من صور الطاعة، والتضحية حيث يقول الأول (يابني اني ارى في المنام أني اذبحك) فيرد الثاني الطاعة (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين) لتتدخل بعدها رحمة الله - عز وجل - في صورة (وفديناه بذبح عظيم). ... وهنا ايضا تطأ الاقدام لترى ارض الرسالات ومهبط الوحي الامين مستدركين عظمة الاسلاف الذين ضحوا بالغالي والنفيس نصرة لدين الله بعد ان كذب المكذبون، ودس المنافقون، وتآمر المتآمرون الا ان إرادة الله عز وجل ابت الا ان يتم الله نوره ولو كره الكافرون. .. ومن هناك انطلقت دعوة التوحيد والرسالة لشتى انحاء المعمورة بعد ان حمل لواءها اولئك الابطال الميامين الذين ملأوا الارض عدلا، وعلما لتصبح شعلة النور لانسانية عاشت عصور الظلام ابان فترة ما يسمى تاريخيا وحضاريا بالعصور الوسطى التي وصل فيها الجهل والتخلف بالانسان الى الدرجة التي جعلته يعتقد ان بامكانه امتلاك ما يسمى ب(صك الغفران). ... ولان (دوام الحال من المحال) - كما يقال - فقد دار الزمان دورته وعاشت هذه الامة في غيبوبة يعلم الله وحده كم تطول، ومتى تغرب شمسها. ... ليس (جلدا للذات) ان قلت اننا لا يجب ان (نلوم الزمن). فنحن من فرط واضاع وبالتالي (فمن ذا الذي يلام غيرنا) مهما حول البعض إلهاءنا او التخفيف عنا - لا فرق - من خلال ترديد اسطوانة (المؤامرة) التي نعلم علم اليقين ان اغلب فصولها - ولن اقول كلها - هي من نسج بعض من تخيلنا. ... من هنا فلا غرو ان وجدنا امتنا تعيش اياما صعبة ولا اهلك في تاريخها المعاصر بعد ان تفرقت واصبحت شيعا واحزابا بعد ان تمكن فينا داء حب الذات واصبح كل منا يمشي ولسان حاله يردد (أنا ومن بعدي الطوفان) متناسين عن عمد او جهل اننا امة أراد الله لها ان تكون (كالبنيان المرصوص)، وان صورة التواد والتراحم تجعلنا (كالجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الاعضاء بالسهر والحمى). نعم.. فلقد سرنا الزمان طويلا، ولكننا دفعنا لهذا السرور ثمنا باهظا جدا بعد ان ساءتنا عقوده كثيرا كثيرا ورمتنا في اتون الجهل والتخلف الذي نعيشه الآن. ... من هنا فإننا نقول: كفانا حقا الحسرة على (اللبن المسكوب)، وترديد كم مفردات الاحباط التي اصبحنا وكأننا لا نجيد شيئا سواها.. فلقد علمتنا حقائق الحياة، وتجارب التاريخ - او يفترض لهما ان يعلمانا - ان البكاء والعويل لا يعيدان ماضيا، ولا يبنيان مجدا ضاع، بل يزيدان احباطات الحاضر التعيس الذي نعيشه هذه الايام. فهل يجود الزمان على امة اراد الله لها ان تكون (خير امة اخرجت للناس)، عندما اختارها لتبليغ واداء رسالته بعودة لأيام (العز والسؤدد)؟ الاجابة باختصار شديد ملجم هي (نعم) ولكن بشروط نعرفها جميعا، ونعرف مدى سهولتها ويسرها، ولكننا نغفل او نتغافل عنها لاسباب لا أحسب ان المقام هنا يتسع للخوض في تفاصيلها. ان صورة هذه الجموع المؤمنة المحتشدة التي شاهدناها يوم البارحة على صعيد عرفة تجعل الامل يدغدغ افئدتنا بأن اليوم المنتظر لعودة امتنا لسابق عزها ومجدها آت بحول الله وقوته لان الله اراد لها ان تكون (الأمة صاحبة الرسالة). كل عام وانتم بخير.. وعلى الحب نلتقي.