لم تكن سنة 2003 التي مضت إلى غير رجعة من أفضل السنوات بالنسبة للتحالف الأطلسي. فهي سجلت إحدى أكبر الأزمات التي أثرت على الدول والمجتمعات بدرجات متفرقة، وأحيانا مؤلمة. ولقد كانت دولة عربية (وهي العراق طبعا) سببا في الفرقة التي شتتت ما وصلته السنوات والمصالح بين الحلفاء الغربيين. وسيذكر الفرنسيون والامريكيون بالخصوص هذه السنة في الزمن القادم، بشيء من الأسف وربما أكثر. والى حد الآن، يمكن أن نلاحظ ان العلاقات لم تعد الى سالف حرارتها، بل ربما تفاقمت سوءا. وعندما طالبت واشنطنباريس بمنع اقلاع طائرات كانت متجهة الى لوس أنجليس ، عشية عيد الميلاد -كريسماس- لوجود شبهات قوية بأن بعض الارهابيين سيحاولون خطفها وتفجيرها فوق مدن أمريكية، تبرم الفرنسيون بهذه المطالب حيث لم يجد رجال الأمن ما يؤكدها بعد التحري. وتساءل البعض هنا عما اذا لم تكن الإدارة الامريكية تسعى الى "اللعب على أعصاب" الحكومة الفرنسية، بالرغم من رفع درجة الحذر في الولاياتالمتحدة نفسها بنسبة عالية. واذا كانت هذه الشكوك والتساؤلات مثيرة للأعصاب هنا وهناك على طرفي الأطلسي، فذلك بلا شك لأن المشاكل التي تستحق التفكير بهدوء ، لم يقع حلها، وأجل النظر فيها الى موعد غير محدد. ولم يكن اعلان السيد وولفويتز، مساعد وزير الدفاع ، والمنسق الأول لحرب العراق، أنه يحظر توقيع العقود الكبرى لاعادة التعمير على الدول التي عارضت الحرب ( أي فرنساوروسيا والمانيا أساسا)، مما سيسهل استعادة الثقة المفقودة أو التقريب بين واشنطن وتلك الأطراف. بل دشن ذلك القرار بحد ذاته عهدا جديدا، يظهر فيه التاجر والصناعي الامريكيان بوصفهما صاحبي الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بمستقبل العراق. ويشبه ذلك الاعلان بصراحته المذهلة قرار الولاياتالمتحدة الانصراف عن مجلس الامن عندما أيقنت أنها لن تحصل على الاجماع لشن الحرب، والمضي الى بغداد دون تأييد أممي. أو بعبارة أخرى : "من لا يوافق على ما نفعله، فليشرب البحر!" وبالرغم من وجود معارضة كبيرة لسياسة بوش العراقية في الولاياتالمتحدة نفسها، فانه ليس بالامكان القول ان سياسة شيراك حول هذه القضية بالذات تحظى بالاجماع أيضا. ولئن عبر الاشتراكيون مثلا عن تأييدهم شيراك عندما رفض الحرب، فانه من الصعب مع ذلك القول انهم فعلوا ذلك عن جهل لحقيقة الرهان (الاقتصادي)، وهم الذين كانوا في السلطة طوال العقدين الماضيين. ثمة اتجاه "امريكي" قوي في فرنسا، كان على الدوام موجودا سواء في صفوف اليمين التقليدي أو حتى اليسار المعتدل ، لم يجد الطريق الى التعبير تحت ضغوط كبرى، حيث من الواضح أن ما كان مطروحا ليس هو مسألة التدخل في العراق وحسب ، وانما بالطبع اقتسام "الكعكة" بعد الحرب. وهنا لم يحصل الاتفاق على ما يبدو، بين امريكا وبريطانيا من ناحية ، وبين روسياوفرنسا من ناحية أخرى اللتين كانتا وقعتا عقودا هامة في قطاع النفط مع نظام صدام حسين، وأرادتا الاحتفاظ بها كشرط لدخول الحرب، ولم تحصلا على موافقة واشنطن. لقد كان الخلاف اقتصاديا وتجاريا، ولم يكن سياسيا وقانونيا الا في الظاهر. والى ذلك، ينبغي أن نضيف أن الجناح "الامريكي" في اليسار الفرنسي أقرب الى وجهات نظر الحزب الديمقراطي . وهو ما يفسر تأييدهم شيراك على وقوفهم الى جانب بوش . وأما اليمين الفرنسي، فهو لا يعادي الحزب الجمهوري، وان لم يكن بامكانه كذلك أن يساند بوش قبل مساندة شيراك. من هنا، ينبغي اضفاء النسبية على التقييم ووضع المواقف في اطارها الحقيقي. ولا تزال الازمة قائمة، كما نرى، وبحاجة الى انضاج المواقف لحلها. الاندبندنت