إقامة الافطار الرمضاني لهيئة الصحفيين بمكة من أعلى إطلالة في بقاع المعمورة    أسواق    تعزيز البيئة الاستثمارية في مكة    التزام راسخ بتعزيز الأمن والاستقرار في العالم.. ولي العهد.. دبلوماسية فاعلة في حل الأزمات الدولية    بمشاركة حكومة دمشق لأول مرة.. المؤتمر الأوروبي لدعم سوريا.. ماذا يريد الطرفان؟    وسط تشديد الحصار واستمرار المساومات حول عدد الأسرى.. 2.4 مليون إنسان يقتلهم الاحتلال ببطء داخل غزة    بعد تغلبه على الأهلي في ديربي جدة.. الاتحاد يتوج بطلًا للدوري الممتاز لكرة السلة    نيابة عن خادم الحرمين وأمام ولي العهد.. السفراء المعينون حديثاً لدى عدد من الدول يؤدون القسم    اللجان الأولمبية الإفريقية تعترف بالاتحاد الدولي للهجن    انطلاق «بسطة خير» لتمكين الباعة الجائلين    "أبشر" تتيح تجديد رخصة القيادة إلكترونياً    مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يعقد اجتماعًا لمناقشة التقارير وإصدار التوصيات    «المداح.. أسطورة العهد» مسلسل جديد في الطريق    مبادرات مستمرة لحماية المستهلكين والمعتمرين.. الغذاء والدواء: رصد 52 منشأة مخالفة خلال 800 جولة تفتيشية    347 مليون ريال لمشاريع صناعية في الأحساء    823.9 ريالا فارقا سعريا بين أسعار الغرف الفندقية بالمملكة    «ستاندرد آند بورز» ترفع تصنيف المملكة وتشيد بحراكها نحو تحفيز الاستثمار    جمعية «صواب» تطلق مشروع «العزيمة» للتعافي من الإدمان بجازان    ربط حي السفارات بشبكة النقل العام عبر حافلات الرياض    ماكرون: التزام فرنسي تجاه لبنان وسيادته    هل تتعرض أمريكا للهجرة العكسية    اختصاصي شؤون طلابية: احموا المدارس من العدوى    الهجمات الأمريكية استهدفت منازل قياديين حوثيين في صنعاء    فتاوى الحوثيين تصدم اليمنيين    جبل أم القصص وبئر الصداقة!    مبابي يقود الريال لكسر عقدة فياريال    مؤسسة العنود تعقد ندوة «الأمير محمد بن فهد: المآثر والإرث»    «كسوة» تطلق سوقها الخيري الرمضاني    إطلاق مبادرة "بسطة خير السعودية" بالواجهة البحرية بالدمام    انفجار العماليق الكبار    بدعم المملكة.. غينيا تحتفي بالفائزين في مسابقة القرآن    مسجد الجامع في ضباء ينضم للمرحلة الثانية لمشروع الأمير محمد بن سلمان ضباء - واس ضمّت المرحلة الثانية لمشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية مسجد الجامع في مدينة ضباء بمنطقة تبوك، نظرًا لكونه أحد أقدم المساجد التاريخية ورمزًا تراثيًا في ا    مراكيز الأحياء.. أيقونة رمضانية تجذب أهالي جازان    كعب أخيل الأصالة والاستقلال الحضاري 1-2    وغابت الابتسامة    سفيرة المملكة في فنلندا تدشن برنامج خادم الحرمين لتوزيع التمور    الأذان.. تنوعت الأصوات فيه وتوحدت المعاني    خلافة هشام بن عبدالملك    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الأخدود    جمعية "شفيعاً" تنظّم رحلة عمرة مجانية لذوي الإعاقة والمرضى وكبار السن والفئات الاجتماعية برفقة أهاليهم    الصحة تجدد التزامها بحماية حقوق المرضى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يستأصل ورماً كبيراً بمحجر العين بعملية منظار متقدمة    القسوة ملامح ضعف متخف    ودية تعيد نجم الاتحاد للملاعب    قائد القادسية تحت مجهر الانضباط    الأخضر يستعد للتنين بالأسماء الواعدة    «سلمان للإغاثة» يوزّع 1.390 سلة غذائية في محافظتين بالصومال    ترحيب سعودي باتفاق أذربيجان وأرمينيا    تركي بن محمد بن فهد يطلق عددًا من المبادرات الإنسانية والتنموية    حكاية كلمة: ثلاثون حكاية يومية طوال شهر رمضان المبارك . كلمة : بئير    أبرز العادات الرمضانية في بعض الدول العربية والإسلامية.. فلسطين    من العقيدة إلى التجربة.. قراءة في أنسنة الدين    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    عَلَم التوحيد    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي
نشر في اليوم يوم 20 - 01 - 2004

هذه واقعة تمييز تستحق الإثبات والتنديد بأعلى صوت: أن يحبس العالم أنفاسه تحسباً لهجوم وهمي على بعض المدن الأمريكية، ثم حين تبين أنها مجرد شائعات لم تثبت صحتها، غط الجميع في نوم عميق، ولم يأبه أحد لهجوم حقيقي ووحشي آخر شنته في نفس الوقت - وما زالت - القوات الإسرائيلية على مدينة نابلس، بكل ثقلها في التاريخ ومكانها في الجغرافيا.
(1)
في واشنطون رفعت حالة التأهب إلى اللون البرتقالي استناداً إلى الظنون فتوتر الكون وأنشدت الأعصاب واصبح الخبر على كل لسان. أما حين غرقت نابلس في بحر الدم القاني، فان ذلك صار حدثاً عادياً نشر خبره على استحياء في الصفحات الداخلية. وحين يصبح الوهم اكثر أهمية من الحقيقة ويسلِّم الكل بالمفارقة ولا يستغربونها، فان ذلك يأتي مصداقاً لمقولة الكاتب البريطاني جورج اورويل في مؤلفه مزرعة الحيوانات ، أن كل المخلوقات (الحيوانات في الأصل) متساوية، ولكن بعضها متساو اكثر من الآخر. إذ صحيح أن الهلع أصاب الناس في البلدين بصرف النظر عن مصدره، إلا أننا لا ننسى في النهاية أن هذه أمريكا وتلك فلسطين. ولكل وزنه ومقامه الخاص، في قيمة البشر وليس فقط في القوة والعضلات فحسب. والأولى أقوى دولة في العالم بلا منازع، وفي الثانية اتعس أمة على وجه الأرض، أيضاً بلا منازع. ناهيك عن أن الهجوم المفترض على الولايات المتحدة رشحت له عفاريت وأشباح منسوبة إلى الإرهاب والأصولية والذي منه. ولا وجه للمقابلة او المقارنة بين هؤلاء الأبالسة وبين الحاصل في الحالة الفلسطينية، حيث الاجتياح والافتراس تقوم به اسرائيل، وما أدراك ما هي؟!
يبدو أن الأمر ليس فقط استعلاء واستكباراً في الجانب الأمريكي والإسرائيلي، ولكنه أيضاً استضعاف للفلسطينيين. اعني أن التمييز لا يقوم فقط على اعتبار أن الأمريكيين والإسرائيليين هم الأقوى والاهم والأرقى، ولكن لان الفلسطينيين - والعرب والمسلمين بعامة - ينبغي أن يظلوا الأدنى والأضعف، بحيث يتفوق عليهم أي طرف اخر.
أرأيت كيف قامت الدنيا ولم تقعد حين هدمت جماعة طالبان تمثالي بوذا في بلدة باميان الأفغانية، وقال مدير منظمة اليونسكو آنذاك أن التمثالين جزء من تراث الحضارة الإنسانية، وان العدوان عليهما جريمة في حق الإنسانية لا تغتفر. وبنى على ذلك آخرون أنها ما دامت جريمة بهذا التوصيف فان وقوعها يبرر التدخل الدولي لإنقاذ تراث الإنسانية من بين أيدي أولئك البرابرة . لكن هذا الكلام كله نسي وتم ابتلاعه في الحالة الفلسطينية. فمدينة نابلس هذه تعد ثالث أهم مدينة فلسطينية بعد القدس والخليل. وتذكر كتب التاريخ أنها بلدة نزل فيها سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، ومشهورة بما تحفل به من زوايا وخانقاوات ومساجد وآثار تاريخية، سجلتها منظمة اليونسكو باعتبارها جزءاً من التراث الإنساني. وتحدثت التنقيبات عن احتوائها على سلسلة من المعابد الكنعانية التي تعود إلى العصر البرونزي المتوسط، كما أن بها سوراً قديماً يعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد. واسمها مشتق من الكلمة الرومانية نيابوليس أي المدينة الجديدة. وبسبب أهميتها فقد ذكرها كل الرحالة العرب في مصنفاتهم، وقبل اكثر من ألف عام قال عنها المقدسي صاحب احسن التقاسيم أنها مدينة كثيرة الزيتون.. وهي مبلطة الشوارع نظيفة، وبها ماء جار. (لاحظ أن ذلك كان حالها قبل ما يزيد على عشرة قرون لان المقدسي مات سنة 990م). وبعض الذين يسكنونها الآن من سلالة القبائل التي عاشت فيها منذ قبل الميلاد، ومن هؤلاء جماعة السامريين، وهم يهود عرب أقحاح، لم يعترفوا بدولة اسرائيل حتى الان. ورغم أن عددهم حوالي 200 شخص، إلا انهم يحظون بالاحترام، ولهم عضو يمثلهم في المجلس الوطني الفلسطيني.
(2)
هذه المدينة التاريخية المهيبة تعرضت الآثار فيها للتدمير المتعمد بينما أبصار الجميع معلقة على مطارات واشنطون ولندن وباريس، وآذانهم تتلهف على سماع أخبار الهجوم الوهمي وحالة التأهب البرتقالية. والذين رفعوا أصواتهم بالصياح والتحريض لتأديب وردع حركة طالبان من جراء ما ارتكبوه بحق تمثالي بوذا، أصيبوا جميعاً بالخرس والعمى والصمم حينما دكت الدبابات والقذائف الإسرائيلية آثار نابلس، ودمرت حي القصبة الذي احتضن عدداً وفيراً من تلك الكنوز الأثرية.
بذريعة البحث عن ناشطين فلسطينيين مطلوبين او ملاحقة هاربين، اقتحمت الدبابات الإسرائيلية المباني الأثرية، وفجرت العديد من السراديب التاريخية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى، لان ثمة اجتياحاً مماثلاً للمدينة بنفس الدرجة من الفظاظة والوحشية تم في شهر أبريل عام 2002. وفي المرتين استباحت اسرائيل إلى ابعد مدى ما يفترض انه جزء من تراث الحضارة الإنسانية، وقوبلت جريمتها بالتجاهل والصمت المطبق. إزاء ذلك فان المرء حين يقارن بين ذلك الصمت المريب وبين مشاهد الثورة والغضب والنقمة على المسلمين كافة، التي توزعت على أركان الكرة الأرضية حين فعل الطالبانيون فعلتهم، فانه لا يستطيع أن يصف الحاصل الان بأقل من انه وصمة عار في جبين كل الذين نصبوا أنفسهم يوماً ما حراساً للحضارة الإنسانية وأمناء على تراثها.
الذي يهون عليه أمر البشر، لا يستكثر عليه أن يغض الطرف عما يصيب الأثر والحجر. هكذا قلت وأنا أحاول أن أعالج شعوري بالذنب حين تطرقت إلى الجريمة التي أصابت الآثار في نابلس، وقدمتها على ما أصاب أهلها من قتل وتنكيل وتشريد، وهو تقديم لا علاقة له بأولوية الاهتمام، لان ما لا ينبغي أن يغيب عن البال أن كرامة البشر، ناهيك عن دمائهم، تظل اعز وأغلى من أي حجر مهما علت مكانته في التاريخ. وعذري فيما فعلت انه سياق التمييز الذي به بدأ الكلام، وهو ما استصحب استطراداً في المقارنة بين صدى تصرف الطالبانيين على الجانبين الأفغاني والإسرائيلي! - وبالمناسبة فان موقف الأخيرين في هذا المشهد أسوأ، لان الطالبانيين الأفغان فعلوا فعلتهم بمظنة الغيرة على العقيدة. أما نظراؤهم الإسرائيليون فقد فعلوها بدافع القهر والانتقام والترويع. من ثم فيصح وصف الأولين بأنهم جهلاء وحمقى، أما الاخيرون فهم بكل المعايير مجرمو حرب وسفاكو دماء.
لا يستطيع المرء أن يتجاهل او يقلل من شأن قتل العشرات من الفلسطينيين بدم بارد في نابلس وفي غيرها من المدن الفلسطينية، ولا اعتقال المئات من المدنيين العزل، ولا الإصرار الإسرائيلي على الحيلولة دون وصول عربات الإسعاف لإنقاذ الجرحى. ولا ينسى مشهد انتشال جثث سبعة أفراد من عائلة واحدة، كانوا قد دفنوا تحت أنقاض منزل قصر عبد الهادي التاريخي في نابلس. ولا صورة جثامين الأطفال التي تناثرت في شوارع المدينة بعدما قام القناصة الإسرائيليون المتربصون فوق المنازل باصطيادهم بكل نذالة وهم عائدون من مدارسهم، فانكفأوا على وجوههم في الوحل، وتناثرت الدماء فوق كتبهم وكراريسهم.
(3)
يعجز المرء عن وصف الذي أصاب البشر في فلسطين، لكن قصة السيدة نوال السعدي تغني عن أي وصف، وتجسد بطولة الشعب الذي ازعم انه يتحمل منذ نصف قرن على الأقل ما يفوق طاقة أي بشر آخرين.
هذه السيدة التي بلغت الأربعين من العمر. اقترنت منذ ربع قرن بمناضل فلسطيني هو الشيخ بسام السعدي، مسئول حركة الجهاد الإسلامي في شمال الضفة الغربية، ا لذي ألقى القبض عليه مؤخراً، ويتعرض الان لأقسى وابشع أنواع التعذيب والتنكيل. طيلة ربع قرن لم تعش نوال مع زوجها تحت سقف واحد لأكثر من شهر، فقد اعتقل لأكثر من عشر مرات، وبعد كل اعتقال كان الشيخ السعدي يختفي بعيداً عن الأعين لأنهم كانوا يتذرعون بأسباب جديدة لإعادته إلى المعتقل. لكن ذلك كان جزءاً من محنتها التي تعايشت معها بمضي الوقت، وظلت للمحنة أوجه أخرى، بينها أن الإسرائيليين قتلوا في مخيم جنين ابنها عبد الكريم في عام 2001، الذي كان ناشطاً في سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد. وبعد سبعة اشهر قتلوا شقيقه وتوأمه إبراهيم أثناء اجتياحهم للمخيم.
حدث ذلك بينما كان الأب المطلوب دائماً هارباً. الأمر الذي عرض بيت الأسرة للمداهمة المستمرة من جانب قوات الاحتلال. وبعد اغتيال ابنيها عبد الكريم وإبراهيم اقدم الإسرائيليون على تدمير البيت وإحراق بيوت أشقاء زوجها الشيخ بسام. إزاء ذلك اضطرت العائلة للانتقال إلى بيوت مستأجرة. لكن قوات الاحتلال لم ترحمهم واستمرت في عمليات المداهمة، وعمدت إلى طرد الأسرة من كل بيت استأجرته. وفي إحدى المرات قام الجنود بالتحقيق مع أم الشيخ (الحاجة بهجة السعدي - 75 عاماً) وضغطوا عليها لكي يحصلوا منها على معلومات عن مكان اختفائه. لكنها لم تتحمل الضغوط وماتت على الفور.
استمر الإسرائيليون في ترويع الأسرة. فأطلقوا النار على ابن نوال الأصغر - اسمه عز - فأصابوه في ساقه. وبعد ذلك بأيام قتلوا ابن شقيق الشيخ الذي كان قريباً إلى قلبه، ويحمل اسمه: بسام السعدي.
محنة نوال السعدي لم تقف عند ذلك الحد، ففي الانتفاضة الأولى قتل شقيقها محمد السعدي، الذي كان مطارداً من قبل قوات الاحتلال. ولها شقيق ثان قتل في لبنان حينما اجتاحته القوات الإسرائيلية عام 82 - كما أن لها شقيقين لا يزالان في سجون الاحتلال، هما محمود وناصر.
أن قصة نوال السعدي هي قصة البشر في فلسطين كلها، الذين يتعرضون لأعلى درجات السحق التي تقترن بالإنكار والتجهيل. واترك لكم الإجابة على السؤال: ماذا يسمى هذا؟
(4)
اسرائيل دولة تميز في التعامل مع مواطنيها على أساس العنصر والدين. لذلك لا مفر من الإقرار بأنه من الصعب على غير اليهود أن يعيشوا فيها. هذا الكلام الصريح صدر عن دان مريدور وزير المالية والقضاء الإسرائيلي الأسبق قبل ثلاث سنوات (بثته القناة الثانية في التليفزيون الإسرائيلي في 25/1/2001). وإذا لاحظت انه يتحدث عن العرب الذين يعيشون داخل الخط الأخضر ويحملون الهوية الإسرائيلية ويفترض انهم مواطنون في الدولة العبرية، فلك أن تتصور وضع الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة والقطاع.
كلام السيد مريدور لا يصدر عنه لأنه ليكودي فحسب، ولكن لأنه إسرائيلي ملتزم بما يسمى وثيقة الاستقلال التي تمثل الدستور الفعلي للدولة (اسرائيل لا تملك دستوراً رسمياً)، وهي التي تنص على أن اسرائيل دولة الشعب اليهودي (الرئيس بوش اقر الفكرة وأعلنها في خطاب رسمي مؤخراً). وهذا الإدراك يعطي الدولة الحق في عمل كل ما يلزم من اجل الدفاع عن هويتها. ويسوغ لكثيرين من القادة وأهل السياسة أن يتنافسوا في دعوات طرد المواطنين من غير اليهود، وهي الفكرة التي يتبناها ويصرح بها اغلب وزراء الحكومة الحالية، وان تحفظ عليها نفر من المعتدلين (!) الذين اشترطوا أن يكون الطرد نظيفاً ، على حد تعبير الوزير عوزي لانداو. واذا كان الطرد (الترانسفير) مقبولاً من النخبة (الان ينفذ مخطط لإخراج 100 ألف فلسطيني من حدود القدس)، فان التمييز والعنصرية بحق العرب يصبحان قاعدة وأصلاً في التعامل معهم.
خذ مثلاً كيف يميز القضاء الإسرائيلي بين الفلسطينيين واليهود، ذلك انه من اصل 250 جريمة قتل قام بها مستوطنون ضد فلسطينيين، لم يقدم إلى المحاكمة سوى 20 من القتلة، وأقصى عقوبة وقعت على بعضهم لم تتجاوز 7 سنوات، تقلص إلى ثلث المدة من الناحية العملية، أما الأغلبية فيغض الطرف عن ممارساتهم، او يحقق معهم ثم يفرج عنهم بدعوى عدم توفر الأدلة.
قبل عام توصلت المخابرات الإسرائيلية إلى أدلة موثقة أثبتت وجود خلية يهودية خططت لتدمير المسجد الأقصى في أحد أيام الجمعة. وبعد أن تم القبض على عناصر الخلية من اليمينيين، افرج عنهم جميعاً بحجة عدم توفر الأدلة. أما كيف تم التحقيق معهم فتلك مهزلة أخرى. لان وسائل الإعلام سألت واحداً من مخططي عملية التفجير عما اذا كان قد تعرض لأذى، فقال انه تعرض حقاً لأذى شديد لأنهم كانوا يجبروننا على قراءة صحيفة هاآرتس (اليسارية) (!).
يذكر في هذا الصدد أن أحد الحاخامات المتطرفين الذين يستوطنون مدينة الخليل (التي يسكنها 120 ا لف فلسطيني ويحظر فيها التجول لتأمين 450 مستوطناً يعيشون وسط أهلها). - هذا الحاخام - اسمه موشيه ليفنجر - قام في عام 84 بقتل فلسطيني بمسدسه، وتصادف أن كانت كاميرات التليفزيون هناك فصورت الجريمة، ومع ذلك جرى التحقيق معه ثم أطلق سراحه. وحفظ التحقيق بناء على تعليمات عليا. ومن المفارقات أن المستوطنين حينما يقومون باقتلاع آلاف الأشجار المثمرة في الأراضي الفلسطينية فان الجيش والشرطة لا يتعرضون لهم بحجة عدم توفر قوى بشرية قادرة على حفظ القانون، أما حين تظاهر المواطنون الفلسطينيون في الجليل عام 2000. فقد حاصرتهم قوات الجيش والشرطة، وقتلت 13 منهم، وذكرت لجنة اور التي حققت في الموضوع في تقريرها أن القتل وقع لعدم توافر وسائل تفريق المتظاهرين بالوسائل السلمية (!).
هذا بالنسبة للمستوطنين، أما الجنود الإسرائيليون فانهم حين يقتلون الفلسطينيين يؤدون واجباً وطنياً . وحين يكون القتل فجاً اكثر من اللازم، فان الحبس لمدة عام مع وقف التنفيذ هو أقصى ما تقضي به العدالة الإسرائيلية . وفي إحدى المرات أدين ثلاثة من الجنود الإسرائيليين في تهمة قتل خمسة فلسطينيين، فحكم القاضي على كل واحد منهم بغرامة مالية قدرها شيكل واحد (اقل من ربع دولار).
أما الجنرالات الذين أدينوا في جرائم قتل الفلسطينيين فقد تمت ترقيتهم. وقائمة هؤلاء طويلة. ومنهم الجنرال ايفي ايتام، الذي كان قائداً للواء المشاة المعروف ب جفعاتي في قطاع غزة أثناء الانتفاضة الأولى، وكان برتبة عقيد آنذاك. وقد أدانته محكمة عسكرية بأنه قام في العام 1989 باحتجاز ثلاثة من الشباب الفلسطيني من مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة، وقام بربطهم إلى شجرة وبعد ذلك قام بضرب رؤوسهم بقطعة كبيرة من الحجر حتى انهار الشباب وسالت الدماء منهم. وقد رقي بعد ذلك إلى رتبة جنرال. وبعد تسريحه من الجيش اصبح زعيماً لحزب المفدال والآن يشغل منصب وزير الإسكان في حكومة شارون!
(5)
من الفتاوى التي كررها اكثر من مرة الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين الأسبق إسحاق بن الياهو، انه لا يجوز المساواة بين دماء اليهود والعرب، على اعتبار أن دماء اليهود اكثر قدسية . وهناك عشرة من كبار الحاخامات على الأقل اصدروا فتاوى مماثلة، وان أضاف حاخام مدينة كفارسابا اجتهاداً قرر بمقتضاه أن دماء الفلسطينيين نجسة (!) - أما الحاخام ريسكين، وهو من أكبرهم في الدولة، فقد أفتى بجواز قتل الفلسطينيين الأبرياء ، ولو على سبيل إشاعة الردع المطلوب بين الفلسطينيين.
أما فتاوى الحاخام عوفاديا يوسيف، مؤسس وزعيم حركة شاس التي تحتل الان موقعاً مهماً في الخريطة السياسية الإسرائيلية، فحدث فيها ولا حرج. فهو الذي أعلن اكثر من مرة أن العرب جميعاً أفاع وكذابون. كما أفتى بجواز قتل المدنيين الفلسطينيين اذا كان ذلك من متطلبات الواجب الميداني الذي يقوم به الجندي الإسرائيلي. وبقية فتاواه على هذا المنوال.
اختم بشهادة البروفيسور مردخاي كريمنتسير، أحد أهم القانونيين في الدولة العبرية الذي وصف التمييز في القضاء ضد الفلسطينيين بقوله أن في اسرائيل قانونين في الضفة والقطاع، واحد للأسياد اليهود والآخر للعبيد الفلسطينيين واضع إلى جواره كلام ابراهام بورج الرئيس السابق للكنيست والوكالة اليهودية، الذي أورده في مقاله الشهير الذي نشر قبل شهرين عن نهاية الحلم الصهيوني، وقال فيه أن دولة مسخرة لاحتقار العدالة تفتقد القدرة على البقاء والاستمرار - واعتبر هذا النص من أوله إلى آخره بلاغاً مقدماً إلى المنظمة العربية لمكافحة التمييز التي أعلنت في القاهرة مؤخراً.
ولا أستطيع ان اغادر قبل أن اشد على يد أم عبد الكريم السيدة نوال السعدي، وان انحني مقبلاً تلك اليد مرتين، مرة تقديراً لثباتها وصمودها، ومرة أخرى اعتذاراً عن تجاهل الإعلام العربي لها، وعدم اختيارها امرأة عام 2003.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.