كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) يكرر في مواقف كثيرة قولته المشهورة: ((أشيروا علي)). وحتى في موضوع بسيط كصنع منبر يخطب عليه في المسجد، لم يقرر ذلك إلا بعد عرضه على الناس وأخذ رأيهم. جاء في طبقات ابن سعد: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائماً، فقال: إن القيام قد شقّ عليّ، فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه وحقاً ما قاله أبو هريرة فيما روي عنه: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم). ومثله ما رواه عروة عن أم المؤمنين عائشة قالت: (ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم). بالطبع فإن استشارة الرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) هي في مجال تطبيق الأوامر الإلهية، وفي السياسات والتدابير الإجرائية، أما التنزيل وما جاء به من الأحكام والتشريعات فهي من قبل الله تعالى. ويصف القرآن الكريم مجتمع المؤمنين بانتهاج نهج الشورى في أمورهم العامة، فلا أحد يقرر بمفرده فيما يرتبط بالشأن العام، ولا مكان للديكتاتورية والاستبداد، في إدارة الأمور. يقول تعالى {وَالَّذِينَ اسءتَجَابُوا لِرَبِّهِمء وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمءرُهُمء شُورَى بَيءنَهُمء وَمِمَّا رَزَقءنَاهُمء يُنءفِقُونَ}. والسورة التي وردت فيها هذه الآية، تحمل اسم (الشورى)، لتأكيد وتثبيت هذا المبدأ الهام في نفوس المسلمين وحياتهم. ولاحظ بعض المفسرين أنه قد وردت جملة (وأمرهم شورى بينهم) اسمية مع أنها معطوفة على جملتين فعليتين (استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمر. يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: (وأمرهم) الديني والدنيوي (شورى بينهم) أي لا يستبد أحد منهم برأيه، في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعاً عن اجتماعهم، وتآلفهم، فمن كمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمراً من الأمور، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها، وتشاوروا، وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو، والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيرها، وكالبحث في المسائل الدينية عموماً، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية. لقد جاء وصف المجتمع بالتشاور، بعد وصفه بإقامة الصلاة، وقبل وصفه بأداء الزكاة، ليعطي لصفة التشاور صبغتها الدينية، وموقعيتها بين أهم الفرائض والواجبات. ذلك يعني أن مجتمع الاستبداد، الذي لا ينتهج الشورى في أموره العامة، لا يصدق عليه عنوان الاستجابة لله، (الذين استجابوا لربهم)، حيث يفتقد ركناً بارزاً من معالم الاستجابة (وأمرهم شورى بينهم). وكما يقول الشيخ عبدالقادر عودة: ((فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة)). فالشورى في الإسلام ليست مجرد نظام سياسي يلتزم به الحاكم في العلاقة مع الشعب، بل هي نهج تربوي، وسلوك اجتماعي، يصدر عن رؤية دينية ثقافية، فينتج نظاماً شورياً على المستوى السياسي، حيث يوجه الإسلام أبناءه إلى الحرص على استشارة الآخرين فيما يواجهونه من قضايا وأمور في شؤونهم الخاصة، ليصبح ذلك نهجاً عاماً في حياتهم، وعلى الصعيد العائلي تدعو تعاليم الإسلام إلى معالجة قضايا الأسرة، ضمن إطار التشاور والتراضي، فمثلاً: فطام الطفل عن الرضاعة من لبن أمه قبل انتهاء مدة الرضاعة الطبيعية، وهي سنتان، ينبغي أن يتم بالتوافق بين الوالدين، بعد تشاورهما ودراستهما للموضوع لتقويم مصلحة الطفل، يقول تعالى: {فَإِنء أَرَادَا فِصَالاً عَنء تَرَاضٍ مِنءهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيءهِمَا}. وإذا ما حصل شقاق وسوء تفاهم بين الزوجين، فلا يصح أن يترك مصير العائلة للقرارات الفردية المنفعلة، بل تتدخل عائلتا الزوجين، وتختار كل منهما ممثلاً، ويجتمع الممثلان كحكمين ليتدارسا موضوع الخلاف، ويتفقا على أسلوب المعالجة والحل. يقول تعالى: {وَإِنء خِفءتُمء شِقَاقَ بَيءنِهِمَا فَابءعَثُوا حَكَمًا مِنء أَهءلِهِ وَحَكَمًا مِنء أَهءلِهَا إِنء يُرِيدَا إِصءلاَحًا يُوَفِّقء اللَّهُ بَيءنَهُمَا}. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن القرآن يصف مجتمع المؤمنين بأنهم يتشاورون في أمورهم العامة {وَأَمءرُهُمء شُورَى بَيءنَهُمء} وباعتبار أن الآية مكيّة النزول، فهي تتحدث عن وضع جماعة المؤمنين قبل قيام الدولة، ونشأة الكيان السياسي في المدينة. هذه التربية على الشورى، واعتمادها كسلوك وممارسة اجتماعية، وكونها تنطلق من فهم ورؤية دينية ثقافية، كل ذلك يفترض أن يؤدي إلى التزام الشورى في المجال السياسي. حيث لن ينسجم هذا المجتمع مع حالة الاستبداد والديكتاتورية، التي يجدها منافية لمبادئه الفكرية، وتربيته الأسرية، وسلوكه الاجتماعي.