لكل عصر مزاجه وبيئته التي تؤثر في أدبه، ومن أجل هذا لا يمكن لعصرنا أن يخرج كتابا مثل كتاب (الأغاني) يعتمد على الرواية والسند، وعلى الأخبار المتفرقة، لأن هذا كان نتيجة لمزاج زمانه، فهو يقلد كتب الحديث في اعتمادها على السند وروايتها للجزئيات، ونحن لا يغلب علينا هذا النمط من التأليف، ومحال أن نؤلف على هذا النحو، ومن أجل هذا أيضا كان أكثر من تعلم اللغة الأجنبية بجانب اللغة العربية يفضلون قراءة الكتب الأجنبية، لأنها تتعرض لموضوعات العصر بأساليب العصر. ويحق لنا أن نتساءل: ما مستقبل الأدب؟ وبخاصة الذي سيسود؟ لقد جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية، فأثرتا في الناس وحياتهم الاجتماعية أثرا بالغا، فكان لابد أن يتبع ذلك التغير تغير في الاتجاه الأدبي. ظهر هذا الاتجاه على أيدي شباب نشؤوا بعد الحرب الثانية، كانوا أنضج عقلا، وأكمل رجولة من أولئك الذين عاشوا فترة ما بين الحربين، واتسم أدبهم بالنظرة السوداوية للحياة، والشك والارتياب في كل شيء. كانت رؤى أولئك الشباب تدل على أنهم سيكونون أصدق نظرا وأحسن عملا، ولذا ساد في أدبهم الميل إلى الايمان، فهو الركن الركين الذي يعتمد عليه الناس، وتبع ذلك تحطيم النفاق والرياء والاحتيال، وتصوير العواطف الواقعية تصويرا صادقا واضحا لا لبس فيه ولا غموض. ومما ساد في أدبهم: قلة الالتفات إلى أنفسهم، وكثرة التفاتهم الى مجتمعاتهم، والإعراض عن النظرية التي كانت سائدة وهي أن الفن للفن، وأن الأديب ينبغي أن يكون حرا طليقا لا يقيده شيء، ذهب كل ذلك، وحلت محله نظرية (الأدب في خدمة المجتمع) فكثرت الروايات والكتب التي تعالج مشاكل المجتمع، فانحسرت الفردية، وعظم إحساس الأديب بمسؤوليته. مسؤولية الأديب هي تقويم النفس الإنسانية تقويما كبيرا، يعيد لها مكانتها، فالأديب مسؤول عن الحياة الاجتماعية التي يعيش فيها، يحارب الشكاك الذين لا يؤمنون بشيء، فلا يؤمنون بالله ولا بالوطن، ولا بأي شيء. بل لعل الأديب مسئول عن مجتمعه أكثر من مسئولية الحاكم، لأن الأديب أقدر على الاتصال بأنفس الشعب، وأقدر على تحريك مشاعره، وهو يحسن بمقدار خدمته للشعب، وإحساسه بالمسئولية أمامه. الوطن في القمة، ويجب أن يتجه الأدباء إليه، لإصلاح شعبه إذا فسد، وحماية شبابه من الانحراف والزيغ، وتبصيره بحقيقة الآخر، وأن يتعلم الحوار والمناقشة وعدم التبعية، لئلا يكون لقمة سائغة في أفواه الحاقدين على الوطن، ولكيلا يصبح أداة في أيديهم يستغلونه لأداء أعمالهم المشبوهة، مضللينهم بأفكار زائفة، فإنما مثل هؤلاء الشباب المضللين كمثل الطفل الذي يثور على والده، ويفسد في بيت أهله، ويصرف أباه عن أعماله فيما يعود عليه وعلى إخوانه بالنفع، متأثرا بما يزرعه في ذهنه أعداء أبيه. سيقدر التاريخ الأدباء تقديرا آخر غير التقدير الماضي، فقد كان التقدير الماضي مبنيا على فخامة الأسلوب، وجمال التعبير، والقدرة على البديع، أما في المستقبل فسيكون تقدير الأديب بمقياس آخر، هو: ماذا صنع لأمته، وكيف هداها - بفضل الله - الى الخير، والى أي حد رفع صوته ضد الفساد،وأيد العمل الصالح. محاضر في كلية المعلمين بالدمام