ينتاب المرء شعور تختلط فيه الحيرة مع الفزع، إزاء طرح فكرة إرسال قوات حفظ سلام عربية إلى العراق. أما الحيرة فلأننا لا نعرف على وجه التحديد ما اذا كانت تلك القوات ستحمي العراقيين من قوات الاحتلال، أم ستحمي قوات الاحتلال من العراقيين. وأما الفزع فسببه الخشية من أن يكون المستهدف من الإرسال هو الاحتمال الثاني وليس الأول. (1) حين اتصلت هاتفياً بالدكتور احمد يوسف مدير معهد الدراسات العربية التابع للجامعة العربية لكي استطلع رأيه في الموضوع، كان تعليقه المباشر أن هذا كلام سابق لأوانه بكثير، وان الفكرة جزء من الشائعات الكثيرة التي تتردد في العالم العربي هذه الأيام. أجريت اتصالاً مماثلاً مع الدكتور حسن نافعة رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، قال لي بصورة تلقائية إن ذلك مستحيل، ولا يمكن أن يحدث. وكانت مفاجأة الاثنين شديدة حيث قلت لهما إن المسألة ليست شائعة ولا هي فكرة افتراضية، وأنها وردت في سياق خبر نشر على أربعة أعمدة في جريدة الأهرام يوم 30/7، تحت عنوان يقول بوضوح: بمشاركة 13 دولة (عربية) - لجنة المتابعة الوزارية تناقش الثلاثاء المقبل (اليوم 5/8) إرسال قوات حفظ سلام عربية إلى العراق. وتحت العنوان تفاصيل جدول الأعمال المعروض على اللجنة التي تفرعت عن قمة شرم الشيخ. كان أهمها وأخطرها ذلك البند الذي أبرزه العنوان. فهمت من المكالمة أن الدكتور احمد يوسف كان خارج مصر، ولم تتح له فرصة قراءة صحفها، بينما الدكتور حسن نافعة كان قد قضى يومه كله في الكلية، واجل مطالعته للصحف إلى المساء، وحين حدثته لم يكن قد علم بالخبر بعد. وما أثار انتباهي أن الاثنين طرحا سؤالاً واحداً حين قرأت الخبر على كل منهما هو: هل يمكن أن تقوم القوات العربية بدور الشرطة التي تحمي الأمريكيين؟ - كان واضحاً أن السؤال نفي واستنكار وليس استفهامياً، كأن كل واحد أراد أن يقول "لا يمكن أن تقوم القوات العربية بهذا الدور". أضاف الدكتور احمد يوسف إن تزامن الحديث عن إرسال تلك القوات مع تصاعد المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية، التي أصبحت تتكبد قتيلاً او اثنين بالمتوسط يومياً، لا يدع مجالاً للشك في أن الاقتراح (المطلب أن شئت الدقة) أمريكي وليس عربياً او عراقياً. والمعلومات المتوفرة تشير بوضوح إلى أن الجامعة العربية او لجنة المتابعة لم تتلقيا أي طلب من أي دولة عربية بهذا الخصوص، في الوقت ذاته لا توجد جهة عراقية يمكن أن تتقدم بطلب من ذلك القبيل، خصوصاً أن مسألة تمثيل العراق لدى الجامعة وغيرها من المنظمات او المحافل الدولية. لم تحسم بعد، حتى بعدما أضفى مجلس الامن شرعية على سلطة الاحتلال الأمريكي، في تناقض مدهش مع موقفه السابق الرافض لتمويل الولاياتالمتحدة مبدأ إعلان الحرب على العراق واحتلالها. حتى بدا وكأن مجلس الامن رفض الحرب ثم عاد وقبل بنتائجها! (2) اذا كان صحيحاً أن الولاياتالمتحدة هي التي طلبت إرسال قوات عربية إلى العراق، فالأصح أن ذلك الطلب الذي وجه إلى عدد من دول العالم الأخرى. وثيق الصلة بتداعيات الورطة الأمريكية المستحكمة هناك، التي تحدثت عن تجلياتها في الأسبوع الماضي، وقلت انهم لا يستطيعون البقاء هناك بسبب المقاومة والخسائر البشرية اليومية، كما انهم لا يستطيعون المغادرة دون أن يحققوا أياً من أهدافهم الاستراتيجية التي ابتغوها. وهو المأزق الذي دفع عدداً كبيراً من الكتاب والمعلقين السياسيين الأمريكيين إلى المطالبة باشراك المجتمع الدولي في تسيير الأمور وحفظ الامن في العراق. حتى لا تتحمل الولاياتالمتحدة وحدها الثمن الباهظ الذي يتطلبه الاستمرار هناك. غير أن ذلك المطلب وان بدا مخرجاً من الناحية الواقعية، إلا انه يضع واشنطن في مواجهة مأزق اخر، فهي اذا لجأت إلى مجلس الامن لإرسال قوة سلام إلى العراق، فان ذلك قد يعني دوراً اكبر للمنظمة الدولية، يتعارض مع الرغبة الأمريكية في الحرص على أن تبقى صاحبة القرار في بغداد للانفراد بالمغانم المرجوة، من عقود الاعمار إلى النفط. وإذا ما استعانت بحلف الأطلنطي، فان ذلك قد يؤدي إلى إشراك بلدان مثل ألمانيا وفرنسا، في العملية، وهو ما لا ترحب به واشنطن لما هو معروف من أن البلدين كانا من أقوى معارضي الحرب من البداية. لكي تتجنب مثل هذه المحاذير، فان الولاياتالمتحدة آثرت أن تعتمد على الاتصالات الثنائية مع الدول "الصديقة" لترتيب الأمر، وهي تتطلع من وراء ذلك لان تضرب عصفورين بحجر واحد. من ناحية تريد أن تظل ممسكة بزمام الأمور في العراق. ومن ناحية ثانية فهي تأمل في أن لا تدفع وحدها ثمن البقاء هناك. وتتطلع لان تورط غيرها في ذلك الثمن، وحبذا لو حمل غيرها العبء كله، وتولى عملية التصدي للمقاومة، ذلك أن استمرار قتل الجنود الأمريكيين في العراق يهدد مستقبل الرئيس بوش ويبدد فرصة إعادة انتخابه مرة ثانية. وقد استشهدت في الأسبوع الماضي بما كتبه في هذا الصدد النائب السابق لرئيس المخابرات الأمريكية جراهام فوللر، وذكر فيه أن الإدارة الأمريكية لا تحتمل استمرار قتل جندي أمريكي كل يوم لمدة ستة اشهر. انهم يريدون أن يفوزوا بالجائزة، لكنهم اشد ما يكونون حرصاً على أن يدفع غيرهم ثمنها. وقد كنت شاهداً على واقعة من هذا القبيل في باكستان. حين ظلت المخابرات المركزية الأمريكية تراقب وتتبع هناك لعدة أسابيع العضو القيادي في منظمة القاعدة "خالد الشيخ محمد"، الذي قيل انه العقل المدبر للهجوم على مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر. وطيلة تلك المدة لم تكن السلطات الباكستانية على علم بالموضوع. ولكن في اليوم الذي تحدد لاقتحام مقر إقامته وإلقاء القبض عليه هو ومن معه، أخبرت السلطات الباكستانية بالعملية، ولم يكن الهدف من الإبلاغ هو إحاطة الباكستانيين بما سيجري، ولكن كان الهدف هو رغبة الأمريكيين في الاستعانة برجال الامن الباكستانيين في الجانب المتعلق بالاقتحام، لأنهم توقعوا أن تحدث مقاومة مسلحة من جانب خالد الشيخ ومن معه، وخشوا أن يقتل بعض الأمريكيين من جراء ذلك. مما قد يحدث صداه السلبي في واشنطون. ولذلك فانهم آثروا أن يكون الباكستانيون وليس الأمريكيون هم من يقوم بدور رأس الحربة في الهجوم، لكي يتلقوا الضربة الأولى، وتكون الرصاصات الافتتاحية موجهة إلى صدورهم ومن نصيبهم، ومن ثم لكي يكون الجرحى او القتلى منهم وليس من جانب الأمريكيين. (3) وجود قوات عربية في العراق بعد من وجهة النظر الأمريكية حلاً نموذجياً للإشكال - لماذا؟ - لأسباب عدة. إليك بعضها: @ يحقق للولايات المتحدة مرادها في إقصاء الأممالمتحدة، واستبعاد الحلفاء غير المرغوب فيهم في حلف الناتو، وفي الوقت ذاته فانه سوف يحسن كثيراً صورة الإدارة الأمريكية امام الرأي العام العالمي - الذي خرجت جماهيره معارضة للحرب، إذ سيجد الجميع أن الأشقاء العرب بشحمهم ودمائهم قد ذهبوا "متعاونين" مع قوات الاحتلال. @ يعني اعتراف الدول العربية بشرعية الاحتلال الذي يصل إلى حد الإسهام في تأمين وجوده، ويعني ضمناً وبالضرورة إسقاط قرار قمة بيروت الذي صدر في العام الماضي، معتبراً أن العدوان على العراق عدوان على الأمة العربية. @ اذا كان اشتراك الأممالمتحدة او الحلفاء في "الناتو" لن يطلق يد الولاياتالمتحدة في العراق كما تتمنى، فان وجود قوات عربية سيربح الأمريكيين كثيراً. من ناحية لان الأجواء العربية السائدة اكثر "تجاوباً" وانصياعاً للإدارة الأمريكية، ثم أن ذلك الوجود سيرفع عن واشنطون عبء التكاليف المادية المترتبة عليه، وهي التي أبدت استعداداً لنقل الجنود فقط إلى العراق، أما رواتبهم ونفقات إعاشتهم، فأنها لم تبد استعداداً لتحملها، الأمر الذي أدى إلى تردد العديد من دول العالم الثالث في إرسال قوات من جانبها، في حين أن المشكلة قد لا تكون واردة في الحالة العربية، حيث يفترض أن تقوم الدول النفطية بما يجب في هذا الصدد. @ قد يؤدي ذلك الوجود العربي إلى تخفيف حدة المقاومة ضد القوات الأمريكية، التي ينتظر أن تبقى في هذه الحالة خارج المدن. إذ قد تتردد عناصر المقاومة في القيام بعملياتها اذا ما وجدت أن ضحاياها سيكونون من بين "الأشقاء العرب". ورغم أن إحدى الجماعات هددت باستهداف القوات العربية اذا ما قدمت إلى العراق، إلا انه ليس معروفاً على وجه الدقة ما اذا كان هناك إجماع بين المقاومين على هذا الرأي أم لا. @ اذا ذهبنا إلى ابعد في محاولة قراءة السيناريو غير البريء للتوريط العربي في العراق فسنجد أن إرسال قوات عربية من شأنه أن يضع اكثر من لغم في العلاقات العراقية العربية، وينبغي ألا ينسى في هذا الصدد أن عدداً غير قليل من الشخصيات العراقية "المتعاونة" مع سلطة الاحتلال لا يكنون وداً للعالم العربي. وهو الموقف الذي عبر عنه رئيس ما يسمى بالمؤتمر الوطني العراقي السيد احمد جلبي في تصريحات عدة، وعلى شاشة قناة "الجزيرة". وليس سراً أن اسرائيل أقامت علاقات جيدة مع معارضي الرئيس السابق صدام حسين، خصوصاً الذي أقاموا بالولاياتالمتحدة. وكان جماعة المؤتمر "الوطني" في مقدمة هؤلاء، وقد زاروا اسرائيل اكثر من مرة، وفي المقدمة منهم السيد جلبي نفسه. لقد اتهم العرب من قبل بعض القيادات الجديدة في العراق بأنهم مالأوا الرئيس السابق وأيدوه، وإذا أرسلت قوات عربية في هذه المرحلة، سيضيف آخرون أن العرب ساندوا الاحتلال وأعانوه. لا تقف المسألة عند حد "تلغيم" العلاقات العربية العراقية، ولكن تلغيم العلاقات العربية العربية وارد أيضا، ليس فقط بين دول ستؤيد إرسال القوات ودول أخرى سترفض وتدين هذه الخطوة او تجرحها. ولكن أيضاً بين الأنظمة التي ستقبل بذلك وبين شعوبها التي عارضت الحرب من البداية، وسوف يتضاعف سخطها اذا ما أرسلت قوات عربية إلى العراق في وجود سلطة الاحتلال. (4) هذا الذي نقوله ليس غائباً عن الطرف العربي، الذي قيل لي انه يرفض من حيث المبدأ فكرة القيام بدور الشرطي لحماية الأمريكيين ناهيك عن التصدي للمقاومة العراقية، وفهمت أن هناك أفكارا ومناقشات عدة انصبت حول الموضوع خلال الأسابيع الأخيرة. فطرحت فكرة إرسال خبراء عرب (ليسوا عسكريين) للمشاركة في إعادة بناء النظام الجديد. وتحدث آخرون عن إرسال قوات رمزية وليست مقاتلة، في حالة استمرار الضغوط الأمريكية. وهناك من اشترط أن تتمركز تلك القوات بعيداً عن النقاط الساخنة، بحيث يكون الوجود العسكري العربي في أضيق الحدود. التي تجعل منه حضوراً "أدبياً" وليس حضوراً فاعلاً. خلال المشاورات طرحت وجهة نظر قبلت بفكرة وجود القوات العربية بالعراق، أملاً في أن يكون ذلك عنصراً مشجعاً للأمريكيين على الإسراع بعملية الانسحاب. وإذا ما تحقق ذلك فان ذلك التواجد سيصبح لصالح الاستقرار في العراق وليس ضده. واستند هؤلاء إلى معلومات قادمة من الولاياتالمتحدة تشير إلى تنامي الصوت الداعي إلى الانسحاب في أوساط "المحافظين التقليديين" او القدامى، الذين يختلفون مع المحافظين الجدد في تطلعاتهم الإمبراطورية. ومنطق القدامى يقول انه اذا كان النظام البعثي السابق قد شكل خطراً على المصالح او الامن القومي الأمريكي، فهذا النظام سقط وطويت صفحته، ومن ثم فمبرر الوجود الأمريكي لم يعد قائماً، خصوصاً وانه صار مكلفاً تكلفة باهظة، على مستوى الخسائر البشرية والأعباء المالية. هذا الكلام رد عليه آخرون مستبعدين تماماً فكرة الانسحاب الأمريكي من العراق قبل أن تحقق الولاياتالمتحدة أياً من أهدافها ومصالحها الاستراتيجية. وان المخططين الأمريكيين يعرفون ذلك جيداً، وهم يريدون قوات عربية، ليس للإسراع بالخروج، ولكن لتأمين إقامتهم الممتدة. وفي رأي هؤلاء أن المحافظين القدامى لم يعودوا أصحاب تأثير قوي في السياسة الأمريكية، وان المحافظين الجدد وحلفاءهم من المنظمات الصهيونية نجحوا في بسط سلطانهم على القرار السياسي الأمريكي، الأمر الذي يحجب ويصادر أي تأثير لدعاة الانسحاب والتركيز على المشاكل الداخلية الأمريكية. إحدى المشكلات التي تواجه الطرف العربي لا تكمن في كثافة الضغوط الأمريكية فحسب، وإنما في أن الأمريكيين يدعون أن ما فعلوه في العراق هو جزء من مقاومة الإرهاب (رغم انه لم يثبت وجود أي علاقة بين النظام البعثي وتنظيم القاعدة مثلاً) - ويحاولون إقناع الدول العربية بالتالي بان امتناعها او ترددها في المشاركة في إيفاد قوات عسكرية للعراق هو من قبيل التقاعس عن خوض المعركة ضد الإرهاب. وتلك مسألة حساسة لدى بعض الدول العربية التي تحاول واشنطن لي اذرعتها من جراء اشتراك بعض أبنائها في أحداث 11 سبتمبر. (5) يرى الدكتور احمد يوسف أن ثمة حلاً وحيداً مشرفاً لحل الإشكال. وعلى حد تعبيره فانه اذا كان الأمريكيون في ورطة، فهم المسئولون عنها أولاً. ثم انه لا يعقل أن يطالبوا الدول العربية بأن تخرجهم من ورطتهم ناهيك عن أن تتورط معهم. والحل الذي يراه هو أن يتم إرسال قوات سلام عربية في إطار اتفاق سياسي واضح، يحدد أجلا للانسحاب الأمريكي من العراق. ويضع جدولاً زمنياً لذلك الانسحاب. وهو ما حدث مع الكويت في عام 91، حين هددت بالاحتلال من جانب العراق، واستدعى حاكمها الشيخ صباح السالم قوات بريطانية لحماية بلاده. حينذاك اجتمع مجلس الجامعة العربية وأعلن وقوفه إلى جانب الكويت وحقها في الاستقلال. وقرر المساهمة في تأمين ذلك الحق للكويتيين، لكنه اشترط انسحاب القوات البريطانية التي تم استدعاؤها، قبل أن تتوجه قوة سلام عربية إلى الكويت، وهو ما حدث بالفعل، وأنهى الأزمة في حينها بكرامة وسلام. السؤال الذي يطرح نفسه حين تستدعى هذه القصة إلى الذاكرة هو: هل تستطيع الدول العربية أن تكرر هذا الموقف الآن؟ وإجابة السؤال ستدلنا على ما اذا كان التاريخ عندنا يسير إلى الأمام أم إلى الوراء!