اقرأ هذه الأيام كتاب لرودلف جولياني عمدة نيويورك الشهير بعنوان (القيادة) وربطت بين الهاجس الأول لهذا العمدة حين تولى منصبه (كيف اجعل نيويورك مكانا مفضلا للعيش الأسري) وبين المتغيرات والمستجدات الاجتماعية التي طرأت على معيشة أسرنا الصغيرة وغياب الدور المركزي الأمني والاجتماعي للدولة عن رصد ومتابعة ومعالجة آثاره. يكفي للدلالة على هذا الارتباط بان نجاح جولياني في الانتخابات الثانية للمنصب كان رهنا بنجاحاته القياسية في تغيير وجه نيويورك الأمني والبيئي والاجتماعي, ذلك النجاح الذي لم يقاس بالاحصائيات فحسب بل بالشعور الذي انعكس على حياة الفرد فيها وأسلوب وطريقة العيش. وقد تسلم المنصب ومعدل الجرائم وصل الى أكثر من 1950جريمة قتل في السنة وأكثر من 2000 جريمة انتحار في السنة ونجح في خفض ما نسبته 20% في السنتين الأولتين من فترة عمله, ولم يغادر المنصب بعد ثماني سنوات إلا ومعدل جرائم القتل قد انخفض الى 640 جريمة قتل فقط أي انخفاض يوازي 67%, وقد حاول النيويوركيون تعديل قانون الانتخابات من أجل عيونه لتمكينه من ترشيح نفسه للمرة الثالثة, لكنه فضل الابتعاد. ان نظرياته الإدارية الناجحة التي تدرس الآن والتي باتت نموذجا لمعالجة العديد من القضايا المشابهة في عدة ولايات ترتكز على تحقيق النجاحات الصغيرة أولا وهي بدورها ستقود حتما للنجاحات الكبيرة فيما سماه بنظرية (النافذة المكسورة). فقد شبه جولياني سكوت وتجاهل وغض البصر عن وجود نافذة مكسورة في بناية واحدة كيف ممكن ان يشجع أي مار بان يلقي حجارة على النافذة المجاورة, للاستدلال على كيف تبدأ مشاكلنا عادة, اي باهمال وتغاض وتبسيط لمخالفة صغيرة ثم عادة ما تنتهي النافذة مكسورة الواحدة الى بنايات مهملة محطمة النوافذ (ظاهرة نيويوريكية) تتحول لمرتع لارتكاب الجرائم الكبرى قتل واغتصاب ووكر لتعاطي المخدرات. وحين فكر جولياني في خفض معدل جرائم القتل البشعة بدأ فعلا في تشديد العقوبات وملاحقة المخالفين للجنح الصغيرة أولا قبل ملاحقة مجرمي القتل, فشدد على ملاحقة الكتابة على الحيطان وعلى وسائل النقل, التسكع عند إشارات المرور (كان السائقون في نيويورك يخافون الإشارة الحمراء حيث يتربص بهم اللصوص والبلطجية) لقد قادت هذه الملاحقات الى مزيد من الانضباط واحترام القانون وأدت بالتالي مع وسائل أخرى لها علاقة بالأسلوب الإداري لتغيير نمط الحياة في نيويورك وجعلها مكانا آمنا للعيش, لو اننا طبقنا نظرية النافذة المكسورة على تفاقم مشاكلنا الأمنية والاجتماعية لوجدنا مثالا واقعيا وحيا على القول المأثور عندنا (أعظم النار من مستصغر الشرر). الأسرةالنواتية هي المرأة المصغرة التي من خلالها نعرف كيفية إدارة الدولة لقضاياها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والبيئية والسياسية, فلا يقاس أي نجاح او فشل لأي إدارة سياسية لأي دولة إلا من خلال انعكاس مردود تلك الإدارة على الفرد وعلى احوال الأسر, وتزايد حدة مشاكلنا الأسرية اليوم وانعكاسها على نمط احوالنا المعيشية حيث تنوعت تلك القضايا التي مست الأمن الأسري من مخدرات الى حوادث سير الى سرقات الى طلاق وتفكك أسري إلى تشرد الأطفال وتسكعهم الى دور الأب المربي المفقود الى العنف, وهي كلها ظواهر مرتبطة ببعضها البعض, وبعضها نتيجة الآخر, ماهي سوى انعكاسات وآثار لاهمال وللغياب الفعال للدور المركزي القيادي للدولة في إدارة الأمن الاجتماعي, فلا يعزل هذا عن ذاك, وبالتالي فان معالجة تلك القضايا الأسرية من صميم الإدارة المركزية بالضبط كما فعل جولياني حين تسلم إدارة مدينة متخمة بالمشاكل الأمنية. *كاتبة بحرينية