أوقفت القوى الأمنية اللبنانية في بعلبك منذ عدة أيام، المطلوب عباس حسين جعفر 22 عاماً، الملقب ب «عباس كاتيا». عباس المذكور يعد أحد أخطر المطلوبين للعدالة، إذ حُرر في حقه 186 مذكّرة توقيف وأحكام قضائية بجرائم عدة تبدأ بالقتل والإتجار بالمخدرات والسلب بقوة السلاح ولا تنتهي بسرقة السيارات والاحتيال والتزوير. كما أنه متورّط في قتل أربعة عسكريين وجرح ضابط من الجيش في مكمن نُصب لهم في بلدة رياق، فضلاً عن قتله ابن شقيقته عباس حمدان جعفر قبل نحو أسبوعين إثر خلاف عائلي. وضبط داخل منزله بندقية حربية من نوع «إم 16»، وقنابل يدوية وذخائر. عباس ليس المطلوب الوحيد في البقاع اللبناني. هناك مئات الأشخاص على شاكلته، لكنه ينفرد لجهة كونه الأصغر سنّاً ويوجد بحقه هذا الكم من مذكرات التوقيف، إذ يذكر مسؤول أمني ل «الشرق» أنه منذ بلوغ عباس السن القانوي، يحرر بحقه كل تسعة أيام مذكرة توقيف لارتكابه جرماً ما. جيش «الطفار» قضية عباس تصلح لأن تكون مدخلاً لعنوان كبير، والتي تعتبر من المواضيع الساخنة لبنانياً تُعرف ب «الطفّار». فقضية «الطفّار» في مناطق بعلبك اللبنانية عنوانٌ رئيسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصناعة الجريمة في هذه المدينة الصغيرة. إذ يفوق عدد المطلوبين المتوارين عن الأنظار في مناطق البقاع اللبنانية ثلاثين ألفاً، بحسب مسؤولين أمنيين. يطلق على هؤلاء تسمية «الطفّار» ويشكّلون سوياً جيشاً قائماً بحد ذاته، يتوزعون بين عدد من القرى البقاعية التي تكاد تكون معظمها محرّمة على أجهزة الدولة، أشهر هذه المناطق هي قرية بريتال، حيث تأوي هذه البلدة مئات المطلوبين لارتكابهم جرائم القتل والسلب المسلح، كما تُعرف بأنها مركز الاتجار بالسيارات المسروقة، وهناك أيضاً، قرية أخرى اسمها طاريا، تأتي في المرتبة الثانية من حيث الشهرة بعد بريتال، وتعرف بأنها مركز رئيسي لتجارة المخدرات، وتحديداً حشيشة الكيف المحظورة لبنانياً. المشكلة إلى تنامي في ظل الحلول القاصرة التي إن وُجدت ستوفّر على البلاد انفجاراً اجتماعياً يكاد يكون محتوماً. اتهامات متبادلة و تتهم الحكومة هؤلاء بالسرقة والإتجار بالمخدرات، فيما هم يتهمون الدولة والحكومة اللبنانية بعدم متابعة قضاياهم، وعدم توفير ظروف عمل خاصة بهم، الأمر الذي دفع بهم إلى الخروج عن القانون. إذ إنهم يعيشون وعائلاتهم في ظروف صعبة وحياة غير مستقرة ومتوترة. هنا تبدأ العقدة. وعولجت المشكلة مراراً، لكن من دون أن يصار إلى معالجة أسبابها، ذلك دفع إلى عودة نشوئها مجدداً. وفي هذا السياق، يقول النائب غازي زعيتر أن «مشكلة البقاع الشمالي مزمنة عمرها من عمر الوطن». ويؤكد زعيتر أن «الدولة اللبنانية لم تنظر إلى أبناء المنطقة باعتبارهم جزء من النسيج اللبناني». ويضيف زعيتر»تركتنا الدولة وحدنا»، ويقول مضيفاً «إن ضباط الاستخبارات، في أيام المكتب الثاني، كانوا يحرّضون العشائر بعضها على بعض. ورغم ذلك، فإن رئيس مخفر كان يستطيع أن يحضر «أكبر طافر» إلى التحقيق من خلال التواصل مع وجيه عشيرة أو بلدة أو مختارها». موقف النائب زعيتر يوافق مئات الآراء التي تحمل الدولة وحدها المسؤولية. إذ أمعن القائمون عليها في إهمال مناطق البقاع. تركوا المنطقة على حالها منذ عشرات السنين. لم يضع أيّ من المسؤولين المتعاقبين على الحكم أي خطة لتنفّذ في إنماء البقاع. لا على صعيد الأشغال ولا المياه ولا الزراعة أو الصناعة. وفي الوقت ذاته، فإن نواب المنطقة اشتركوا في الجريمة أيضاً عندما غضوا الطرف عن الإهمال المتمادي. جرائم ومداهمات يتوزّع المطلوبون في البقاع على عدة فئات من الجرائم من الاتجار بالمخدّرات والقتل والسرقة والسلب المسلّح. وهناك أيضاً، المطلوبون بموجب المخالفات البسيطة (السير، البناء، الأرض المشاع...). والفئة الأخيرة لها حصة الأسد، بحسب النائب زعيتر. وبخلاف السائد، فإن النائب البقاعي يؤكد أن أعداد المطلوبين في البقاع هي أقل مما يُذكر في وسائل الإعلام (يتردد رقم 35 ألف مطلوب). فجميع المطلوبين لا يزيد عددهم على عشرة آلاف. والعدد الأكبر من هؤلاء مطلوبون بمخالفات تحوّلت إلى أحكام جزائية، فيما العدد الآخر يتعلق بأشخاص هامشيّين في جرائم المخدرات والقتل والسرقة والسلب. أما المطلوبون الخطرون، فلا يزيد عددهم على 500 شخص. يتركز هؤلاء في بلدتي الكنيسة وبريتال، البلدة التي يُتداول اسمها كمنطقة خارجة على القانون. مداهمات البيوت وعائلات المطلوبين بشكل متكرر فاقم من سوء الوضع وزاد من عمق الشرخ بين الناس والسلطة. انعكس ذلك سلباً على حياتهم وحياة عائلاتهم وأطفالهم، وأفقدهم حياة الاستقرار الطبيعية التي ينشدون كما يقولون. ووفق أهل البلدة، فإنه عادة ما تستخدم السلطة العنف عند المداهمات التي تكون في غالبيتها عشوائية، ويشكو هؤلاء من قسوة رجال الجيش والأمن عند دهمهم بيوتها بذريعة البحث عن مطلوبين أخيراً. تفاخر بالتهم «نريد أن نعيش بكرامة» كلمة يرددها معظم الذين التقتهم «الشرق» تلخّص حال القاطنين في هذه المناطق. يؤكد أحد المطلوبين بموجب مذكرات توقيف لا يعلم عددها بحسب قوله، أنهم يفخرون بكل التهم التي يتّهمون بها. ينطلق الشاب الذي يلقّبه زملاؤه ب «الشيخ» من مقولة «مجبرٌ أخاك لا بطل» ليشرح وضعهم. يؤكد أن أمنيته أن يعيش كغيره من الناس بدون ملاحقة أو مداهمة. أمنية يشاركه فيها معظم المطلوبين الذي لم يهنؤوا بعيشة استقرار. صحبنا «الشيخ» إلى محلة تسمى «الجرد»، يعرفها الجميع كملجأ يقصدونه هرباً من ملاحقة قوات الأمن. تلتقي هناك عشرات الأشخاص الذي يخبرك كل منهم عن رواية. يذكر أحدهم أنه مطلوب منذ أن كان عمره 15 عاماً. لم يتجاوز الشاب العشرين من عمره، لكنه يؤكد أن هناك العشرات مثله. يستعرض «أمهز» بطولاته أمام أقاربه، فيخرج «أبو سمرا» الصديق اللصيق به، ليزايد عليه. يؤكدان أنهما لا يفترقان أبداً. سرد الرويات والبطولات المنقولة لا ينتهي، لكن المؤكد أن خلف صورة المجرمين التي يظهرون بها، طيبة وبساطة تشهدها من خلال العادات والقيم التي لا يزالون يتمسكون بها. بدوره، يسرد النائب زعيتر قصة صادفته في أحد الملفات القضائية المتعلقة بقضية اتجار بالمخدرات، فيشير إلى أن الموقوف هدد 54 شخصاً بأنه سيزج بأسمائهم في القضية إذا لم يدفع كل منهم له مبلغ ألفي دولار أميركي. هذه القضية حُلّت. لكن معظم مثيلاتها يُترَك ليسلك طريقه المعهود في القضاء. وهذا القضاء، إضافةً إلى الأجهزة الأمنية «المقصرة في تنفيذ القانون في المنطقة» يحمّله زعيتر جزءاً من المسؤولية، إلى جانب السلطة السياسية. «فلا يجوز أن تستمر ملاحقة أبناء عائلتين بسبب جرائم قتل ثأرية وقعت بينهما في السبعينيات، رغم أن المصالحة جرت بينهما قبل ثماني سنوات، وأسقِطَت الحقوق الشخصية». خفض العقوبات أو أسقاطها وفي السياق نفسه، يتحدث مرجع قضائي ل «الشرق» عن ضرورة خفض العقوبات للمحكومين، وإسقاط العقوبة عن الملاحقين. يتطرق المرجع المذكور إلى ضرورة «تعديل قانون المخدرات» لجهة الفصل بين جريمتي الترويج والاتجار. فيرى أنه «من الظلم الحكم على من يحمل غراماً واحداً من المخدرات بالعقوبة ذاتها التي ينالها من ضُبِط في حوزته عشرون كيلوغراماً من الكوكايين». يستغرب أن ينال العقوبة نفسها مروّج صغير ربما ضُبِط في اليوم الأول لعمله الذي قد يكون سعيه وراءه الحاجة، فيما التاجر الأساسي يجمع ملايين الدولارات من الاتجار بالمخدّرات. يستند المرجع القضائي على ما سبق، ليؤكد ضرورة تعديل القانون لمنح القضاة سلطة منح الأسباب التخفيفيّة لصغار المروّجين كحاجة طارئة وملحّة، علماً أن هناك مئات الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم عشرين عاماً. وعدد كبير منهم، يُضبَط لأن التاجر الكبير يحمي، في مكان ما، مجموعة تعمل لحسابه ويسلّم أخرى. العفو العام المطلوب من قبل الدولة هو المطلب الأوحد الذي يكررها معظم الطفار. يرون أن ذلك يعبّر عن حسن نية لجهة التعبير عن الرغبة في احتضانهم وأطفالهم مجدداً. فذلك، ربما، يكون فاتحة جديدة تشق الطريق أمامهم لمستقبل أفضل يختلف عن ذلك الذي يعيشونه في ظلمة الجرد وبرده. مطلوب