لا ليس هكذا.. انه لا يخرج من بين الأوارق الميتة.. ولا يأتي صوته من خلف الانقاض.. واهنا خافتا.. مستكينا.. يائسا.. لم يحدث هذا قط. حتى في منعطفات الزمن البائس.. كان هو هو كعادته حيا.. صاخبا.. راكضا.. يتسلق الحيطان الرطبة.. ويقف على الشطآن.. ويستقبل الريح والمطر كاغصان الشجر.. كان يأتي كذلك النبت البرى في كل مكان.. يبزغ في شقوق الارض ويصعد الى اعلى بدون حدود او قيود.. وحتى في مواسم الجفاف كان ينتصب كالغصن العاري في شموخ الفقراء.. والبؤساء.. والصامدين.. والحامدين.. والباحثين عن اصول جذورهم.. وارتباطهم بتراب الارض التي يقفون عليها.. كان يعانق كل صباح زهور الوادي.. وتعرف قدماه طريقها الى اعلى الجبل الاخضر.. وبدرجاته المزروعة.. بشجر المانجو.. والتين.. والباباي.. والموز.. وكان يعرف من رائحة الشجر.. موعد قدوم المطر.. ويعرف ملامح السحب.. ودموعها. وكثافة حزنها.. وكانت ماشيته القليلة في السهل.. ترفع آذانها وتقفز بمرح على ايقاع قطرات الماء.. ولم يكن يجهد طويلا في جمع القطيع.. عند الاياب.. كان يكفيه.. ان يغني.. ذلك الغناء الجبلي العذب.. فتجتمع كل الماعز فيقودها بصوته لا بعصاه.. كان الماعز حينها يعشق الغناء.. ويستجيب للنداء.. ما كان صاحبي يعرف عقوق الغنم كان يتحدث اليها فتفهم.. وكانت تتبعه.. الى كهوف الجبل عندما يشتد هطول الامطار.. في ذلك الزمن كان العشب يملأ الارض.. واينما تولي وجهك تجد الخير. اليوم تغير كل شيء.. السهل والجبل.. والعشب والماشية والراعي.. لقد برمج السماد.. والمكن الارض والانسان والحيوان.. وما عادت الغنم تعرف لغة الراعي ولا لغة السحب.. ولا رائحة الطين والمطر.. لقد تغيرت الدنيا.. وتغير لونها.. وطعمها.. ورائحتها.. وحتى مذاق الثمار.. لقد غيرت المواد الكيماوية طعم التين.. والمانجو.. وحليب البقر.. ولكن صاحبي بقي كما هو.. يقف على (عقم) حقله يزرع الارض بيديه.. ومازال عرقه هو السماد لارض لا يخضر وجهها الا بجهد الرجال. هذا هو وجه صاحبي.. الذي بقي مكافحا.. ملتصقا بالطين في ارض الجنوب.. والشمال.. وفي بساتين القصيم وحائل وتبوك وجيزان. هؤلاء هم احبتي.. الذين احبوا تراب بلادهم فما بخلت عليهم ارضهم بخيراتها.