هذا امتداد لموضوع سابق تناول مسألة الإبصار، وكيفية النظر للأشياء، وكيف تصبح العين كاميرا ذكية تلتقط وتستوعب، أو كاميرا ساذجة تسجل اللحظة ولا تفقه دلالتها، وهو ما يسميه أحد الكتاب "العسر البصري"، أي عدم القدرة على تمثل أو استقراء المرئيات، وكيف تختلف الرؤية من شخص لآخر تبعا لاختلاف الثقافة وتباين المواهب والقدرات، ذلك التباين الذي يضعنا إزاء رؤيتين إحداهما نمطية جامدة تكتفي بالظاهر، وتسجل المرئيات تسجيلا فوتوغرافيا جامدا، وأخرى تحول ما يبدو عاديا وعابرا وهامشيا إلى شيء لامع ومدهش ومعبر. لنأخذ تفاوت هذه الرؤية في كتابة المذكرات التي أصبحت هاجسا لدى كثير من الكتاب والساسة ونجوم الرياضة والفن وغيرهم، حيث تستطيع أية فنانة من طراز "الآنسة فضيحة" مثلا أن تكتب عن حياتها وتجربتها الفنية و.. "غير الفنية"، وأن تدون ذلك كله بماء الذهب، ويستطيع أي سمسار، لا تسعفه اللغة ولا الثقافة، أن يستأجر "قلما" لكتابة مذكراته. إذ لا يوجد شخص على هذه الأرض لا تنطوي أحداث حياته، وإن كانت بسيطة، على شيء يستحق التدوين. كما أن الأوراق مشاعة كالهواء، والحبر موجود بغزارة. لكن السؤال الذي يبدو عصيا هو: كيف يتحول الحبر إلى زخات مطر وأنهار وشواطىء، وكيف تتحول الأوراق إلى غابات ومساحات خضراء، وكيف تتحول حروف الأبجدية إلى كلمات، والكلمات إلى عبارات متوهجة، والعبارات إلى معان ودلالات عميقة؟ وكيف تتشكل معاناة المحار لآلىء على جيد حسناء، ويتحول جهد دودة القز إلى قميص حريري؟ وكيف يصبح دبيب اليرقة فراشة محلقة زاهية الألوان؟ وبتعبير مباشر بعيد عن شطح المجاز: كيف نستنبط من الحادثة الصغيرة العابرة دلالات كبيرة وعميقة تترك أثرها في ذاكرة القارىء؟ هذا ما لايقدر على إنجازه إلا من كانت حياته حافلة بالمعاني، وكانت لديه، في الوقت نفسه، القدرة الأدبية والفكرية على اصطيادها ورميها في بحيرة الكلمات، وهذا هو ما يميز سيرة عن أخرى، ورواية عن أخرى ولوحة أو قصيدة عن أخرى. دعنا نتأمل كيف يلتقط كاتب مثل "كازنتزاكي" الأحداث الصغيرة لطفولته، ويحولها إلى حكايات زاخرة بالدلالات. تأمل هذه الحكاية البسيطة مثلا، حيث التقط الطفل كازنتزاكي من الشارع - وكغيره من الأطفال - تعبيرانابيا، وتفوه به أمام والدته فأجفلت الأم خائفة وصرخت:"من علمك هذه الكلمة البذيئة؟ لا تقلها بعد الآن،!!" يقول الكاتب الكبير:"ثم ذهبت - الأم- إلى المطبخ وجلبت بعض الفلفل المطحون وفركت فمي به، بدأت أزعق، التهب فمي. ومنذ ذلك الحين صارت كل كلمة ممنوعة تحرق شفتي وتفوح منها رائحة الفلفل - وحتى الآن بعد سنوات كثيرة وخطايا كثيرة" ويمكن لمن يتأمل هذه الحكاية الصغيرة أن يستخلص منها أن الفلفل المطحون لم يكن رادعا بل إغراء لارتياد مناطق اللغة المحظورة، وأن الأفكار سواء كانت نيرة أم معتمة، لا يمكن اجتثاثها ولا استنباتها بمنطق القوة بل بقوة المنطق، كثيرون قد مروا بهذه التجربة فأساليب العقاب التي تسلكها الأمهات تكاد تتشابه في كل الثقافات، لكن من ذا الذي التفت إليها تلك اللفتة الذكية ليستخلص منها ذلك الرحيق. إن القدرة على استنباط المعنى من تفاصيل الحياة اليومية هو ما يميز كتابة عن أخرى، لذلك فإنك حين تضع هذه اليوميات في كفة، وتضع أطنانا من المذكرات والروايات الأخرى في كفة أخرى ترجح يوميات كازنتزاكي المتدفقة بالمعاني والدلالات، فأنت لا تمر في هذا الإنجاز الأدبي الكبير على عبارة دون أن تستوقفك لتأخذك إلى حدائقها الزاخرة بالثمار. وما يقال عن كتابة المذكرات يمكن أن يقال عن أدب الرحلات، فهناك من يجوب أصقاع العالم ثم يعود إلى بيته خالي الوفاض. وهناك من حاول تسجيل مشاهداته وانطباعاته لكن كتب الرحلات ليست واحدة لأن بصائر الرحالة ليست واحدة كذلك، وكل إناء بالذي فيه ينضح! لا أعرف من هو الفارس الذي كان يضرب بسيفه "الصمصام" المثل، وكيف اعترض الخليفة على ذلك، ورأى أن ما يشاع عن سيفه مشحون بالمبالغات، وكيف رد الفارس على الخليفة قائلا:"لقد أعطيتك السيف، ولكني لم أعطك الساعد الذي يضرب به!!" وهذا صحيح لقد أعطاه السيف ولم يعطه الساعد ولا العزيمة ولا شجاعة القلب، وهي وحدها العناصر الفاعلة في المعادلة، وما يقال عن السيف يمكن أن يقال عن القلم. لذلك فإن العنصر الفاعل في معادلة الرؤية هو كيف يتواصل الرحالة مع المكان بما فيه ومن فيه؟ ومن أية زاوية ينظر الرحالة للمشاهد التي يراها؟ كيف يقرؤها؟ وما هي المعاني التي تولدها تلك القراءة أو المشاهدة؟ أعود مرة أخرى الى "كازنتزاكي" لنتأمل ما يقوله عن هذه الرؤية؟ ولماذا تختلف هذه الرؤية من شخص لآخر على كافة المستويات، وكيف يشاهد كاتب أو فنان أو رحالة منظرا ما أو واقعه ما، أو تخطر له فكرة ما فيطلق صيحة إعجاب أو استنكار، وكيف يترجم تلك الصيحة أو يعبر عنها، أو يحولها إلى لوحة أو قصيدة يقول:"عند رؤية شجرة مزهرة، أو بطل، أو امرأة، أو نجمة الصبح نطلق "آه" - للتعجب أو الاستحسان- لا شيء غيرها يمكن أن يتلاءم مع غبطتنا، وعند تحليل هذه ال"آه" نتمنى لو نعيدها إلى فكر وفن لكي نمنحها للبشر وننقدها من فنائنا الشخصي". هكذا حول الرجل "آهات" فرحه وحزنه، وانتصاره وانكساره إلى إنجازات أدبية وفكرية خلاقه، وما كان لها أن تكون كذلك لولا تلك الكاميرا الذكية القادرة على التقاط المشهد وفلسفته. وهي كاميرا لا بد منها لعلاج العسر البصري، وعمى الألوان، وذلك لاستقراء وتمثل المرئيات بشكل أقل ضبابية وتشوشا. فقد كان غياب الرؤية، ومازال، سببا في كثير من المآزق والعثرات على مر العصور.