عبدالرزاق احمد عبدالفتاح. هكذا اعتدنا ان ننطق اسمه الثلاثي دفعة واحدة وكأنه اسم مركب، لذلك سأراعي هذا الطقس احتراما للماضي. لم يكن هذا الاسم يرن في الذاكرة الا ليستدعي اسما آخر اكثر شهرة وحضورا في دنيا الأدب، ذلك هو الشاعر ابراهيم طوقان. وتلك هي طبيعة الأسماء، فهي عادة لا تأتي محايدة، كما أنها لا تأتي خالية الوفاض، بل محملة بكثير من الرموز والدلالات والتداعيات. بل انها غالبا ما تفقد دلالاتها وايحاءاتها الأولى لتستدعي دلالات أخرى. قد تحمل مدينة ما اسم وردة أو نبتة، لكنك ما ان تستدعي اسم هذه المدينة حتى تتداعى الى الذاكرة احداث ووقائع وقرائن لاعلاقة لها بمعنى الاسم او دلالته. ألا يقال احيانا عن هذا أو ذاك من الأشياء أو الأشخاص انه ليس له من اسمه نصيب؟ بلى! وهذا ما يعزز قول جلال الدين الرومي: (ما الألفاظ حتى تشغل بها فكرك؟ انها الأشواك المحيطة بالكرم! هل جنيت الورد قط من لفظة ورد؟). كان عبدالرزاق أحمد عبدالفتاح مدرس مادة اللغة العربية في مدرسة القرية الابتدائية، وكان لايدخل الصف إلا وبيده كتاب آخر لا يشبه الكتب المدرسية التي بين أيدينا، وهو ما لا يفعله بقية زملائه المدرسين الأوفياء لحرفية المنهج المدرسي. كان الذين وضعوا المنهج الدراسي آنذاك يشكون في قدراتنا العقلية في تلك السن، فكانت مختاراتهم الشعرية الباردة تراعي هذه المسألة، وتخاطبنا على قدر عقولنا الصغيرة. أما عبدالرزاق احمد عبدالفتاح فكان يثق في تلك العقول الصغيرة، ويعول عليها كثيرا، ويعاملنا وكأننا كبار، ولذلك فقد ارادنا ان نخرج من أجواء المنهج المدرسي، ومن ايقاعات (الولد النظيف ومنظره الظريف)، وأدبيات (أبي اشترى لي ساعة) ليقرأ علينا: (الثلاثاء الحمراء) و(الساعات الثلاث) التي أعدم فيها فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطا الزير، على يد المندوب السامي البريطاني في فلسطين آنذاك. كان لابد لنا ان نمر بابراهيم طوقان كي نحتمل ثقل اليوم الدراسي ونصوصه الراكدة. تقول الشاعرة فدوى طوقان عن قصيدة أخيها: (ألقى ابراهيم قصيدته (الثلاثاء الحمراء) وذهل عن الجمهور، وشعر كأنما خرج من لحمه ودمه، فكان يلقي بروحه وأعصابه، فما انتهى حتى كان بكاء الناس يعلو نشيجه، ثم تدفقوا خارج القاعة في هياج عظيم)!!. كبرنا وتغيرت نظرتنا للنص الشعري، لكن كان لابد أن نمر بابراهيم طوقان، وبغيره من الشعراء الكلاسيكيين كي ندرب آذاننا على موسيقى الشعر، وكي نتعرف على أغراضه المختلفة. مضت الأعوام، وامتلأت مكتبتي بدواوين الشعر المحلية والعربية والعالمية، ومازال ديوان طوقان غائبا حتى قبل ثلاثة شهور تقريبا عندما تلقيت دعوة من مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري لحضور دورة الجائزة الثامنة المقامة في المنامة، وعدت محملا بحقيبة حبلى بالكتب لم أطلع على عناوينها إلا في البيت. كان من بينها ديوان إبراهيم طوقان إعداد وترتيب ماجد الحكواتي. تركت الحقيبة جانبا ورحت أراجع فهرست الديوان بحثا عن (الثلاثاء الحمراء.. وساعاتها الثلاث). وتداعت أيام الطفولة، وطاولات الصف، والسبورة، وحارس المدرسة، والكتب المدرسية، ووجوه الزملاء، وعبدالرزاق أحمد عبدالفتاح بقامته الطويلة النحيفة وهو يلعلع منشدا: (أنا ساعة النفس الأبية، الفضل لي بالأسبقية.. أنا بكر ساعات ثلاث.. كلها رمز الحمية..). هنالك جانب آخر لم يطلعنا عليه عبدالرزاق أحمد عبدالفتاح، وهو دعابات إبراهيم طوقان. إما لأن الديوان الذي يتأبطه يوميا خلو من تلك الدعابات، أو لأنه لم يشأ أن يمزج الجد بالهزل، والمأساة بالملهاة، وقد كان معنيا آنذاك أن يجعلنا نتعاطف مع معاناة أبناء وطنه، وأن يصنع منا رجالا جادين متجهمين. وربما كان عبدالرزاق أحمد عبدالفتاح يقول في نفسه: نعم الشاعر إبراهيم طوقان لولا أن به دعابة! فقد أسيء فهم الدعابة على مر العصور. ولعل أستاذنا لم يسمع بالقول المأثور: (من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر!). أو لعله لم يشأ أن يخالط التين طينا، خصوصا أن عبدالرزاق أحمد عبدالفتاح ومع جمال شخصيته وجاذبيتها نادرا ما كان يبتسم، أو يبدو هازلا أمام طلابه الصغار، وربما كان التظاهر بالجدية بندا من بنود خطة التربية آنذاك. وقد أكون مخطئا في طرح كل تلك الافتراضات. غير أني قد اطلعت على بعض حلمنتيشيات إبراهيم طوقان في مرحلة دراسية لاحقة على يد أستاذ آخر يعشق الدعابة ويتعاطى النكتة، ولا يطبق بروتوكولات حكماء التربية بحذافيرها. كان يتأفف من مهنة التعليم، ويضيق بوظيفته التربوية ذرعا، وكان يتذوق أدبيات الضحك. فدلني وبقية الزملاء على أول قصيدة ضاحكة أتعرف عليها في حياتي هي معارضة إبراهيم طوقان الضاحكة لقصيدة أحمد شوقي (قم للمعلم وفه التبجيلا). كان طوقان حلمنتيشيا.. ويبدو لي أنه لا يوجد شخص في قلبه ذرة من شعر إلا وتسكن قلبه الدعابة. والذي لا يضحك ليس شاعرا. هل رأيت شاعرا بما تعنيه كلمة شاعر ثقيل دم أو ظل؟ أكاد أجزم بأن الدعابة (ترمومتر) الشاعرية. وأن ثقل الدم ما دخل حقلا من حقول الإبداع إلا وأفسده. كان طوقان شاعرا خفيف الدم والظل، وقد احتاج يوما لحقنه بدم غيره، وحين سأله الطبيب عن فصيلة دمه قال: (لك ماشئت يا طبيب ولكن.. اعطني من دم يكون خفيفا!).