ذات يوم حضرت الى مكان ما في زاوية من ساحته طفلتان صغيرتان.. قد انزوتا على على بعضهما واذا بي ألمح الطفلة (بشاير) تحتضن أختها الصغرى (نوف) وتجمع كفيها الصغيرتين وتنفخ فيهما بفمها!! وتفركهما بيديها, منظر لا يمكن ان أصفه.. وشعور لا يمكن ان أترجمه.. دمعت عيناي من هذا المنظر المؤثر.. ناديتهما ما الذي جاء بكما في هذا الوقت المبكر؟! ولماذا لم تلبسا لباس يقيكما من البرد!! فازدادت التصاقا بأختها ووارت عيني عينيها وهما تخفيان عني الكثير من المعاناة والألم التي فضحتها دمعة لم أكن اتصورها!! ضممت الصغيرة إليّ فأبكاني برودة وجنتيها وتيبس يديها أمسكت بالطفلتين فأخذتهما معي الى مكان آخر.. اعدت علي الطفلتين السؤال: ما الذي جاء بكما الى هذا المكان وفي هذا الوقت المبكر!! ومن الذي احضركما؟ قالتا ببراءتهما لا ندري السائق هو الذي احضرنا قلت ووالدكما. اجابتا: والدي مسافر والسائق هو الذي اعتاد على احضارنا حتى بوجود أبي!! قلت: وأمكما كيف اخرجتكما بهذه الملابس الصيفية في هذا الوقت؟ لم تجب (بشاير) وكأنني طعنتها بسكين!! قالت (نوف) الصغيرة: ما ما عند جدي!! قلت ولماذا تركتكما ومنذ متى؟ قالت (الصغيرة): من زمان, فقلت لبشاير هل صحيح ما تقوله اختك. قالت: نعم يا(نوال) من زمان أمي عند جدي.. أبي طلقها وضربها والسبب هو لانها انجبتنا هكذا (معوقتان) ولا نمشي إلا من خلال هذه الكراسي المتحركة, ولا نعرف ما السبب وراحت وتركتنا وبدأت (بشاير) تبكي. وتبكي!! هدأتها.. وانا اشعر بمرارة المعاناة وخشيت ان تفقدا الثقة بأمهما أو أبيهما!! قلت: لها ولكن والدتك تحبكما أليس كذلك؟ قالت (بشاير): نعم وأنا أحبها وأحبها.. لكن أبي وزوجته!! ثم استرسلت في البكاء قلت لها ألا تري أمك يا (بشاير)؟ قلت: ألا يسمح لكما والدكما بذهابكما اليها؟ قالت: كان يسمح لكن بعدما تزوج ما عاد يسمح لنا. قلت: لها يا(بشاير) زوجة ابوك مثل أمك.. وهي تحبكما قاطعتني (بشاير) لا, لا, لا يا(نوال) أمي أفضل هذه دائما تضربنا.. ودائما تسب أمي أمامنا لماذا انجبتنا هكذا (والعياذ بالله) قلت لها: ومن يتابعكما في الدراسة قالت: لا يوجد احد يعلمنا لأننا أساسا لا ندرس, قلت: ومن يجهز ملابسكما وطعامكما؟ قالت: الخادمة.. وبعض الأيام أنا!! لأن زوجة أبي تمنعها عن مساعدتنا أثناء سفر أبي وتجعلنا نعتمد على أنفسنا ونغسل ملابسنا وننظف المنزل ونحن على كراسينا المتحركة وأنا التي أجهز ملابسي وملابس أختي!! اغرورقت عيناي بالدموع.. فلم اعد احتمل!! حاولت أن أرفع معنوياتها وقلت لها: لأنك امرأة ويعتمد عليك (وكان عمرها حين ذاك عشر سنوات) قلت: ولماذا لم تلبسا لبس شتوي في هذا اليوم؟ قالت: زوجة أبي منعتنا.. واخرجتنا من الغرفة وبالأصح من البيت!! قلت: يا(بشاير) بعد ان أدركت عمق المعاناة والمأساة التي تعيشها مع اختها لا تذهبا من مكانكما وسأعود اليكما بعد قليل!! خرجت من عندهما وانا اشعر بألم يعتصر قلبي.. ويقطع فؤادي ما ذنب الصغيرتين؟ ما الذي اقترفتاه؟ حتى تكونا ضحية خلاف أسري.. وطلاق.. وفراق أين الرحمة؟ أين الضمير؟ أين الدين؟ بل أين الإنسانية. أسئلة وأسئلة ظلت حائرة في ذهني! سمعت عن قصص كثيرة متشابهة.. قرأت في بعض الكتب مثيلاتها.. ولكن كنت أتصور ان في ذلك نوعا من المبالغة حتى عايشت أحداثها! قررت ان تكون قصة الطفلتين قضيتي. جمعت المعلومات عنهما وعن أسرة أمهما.. وعرفت مكانها ورقم هاتفها! اتصلت بها وسألتها عن عنوان أبيهما وزوجته وأخبرتها ان ابنتيها بأحسن حال!! اضافت الأم قائلة: الأب مسافر للدراسة لاجتياز الدكتوراه عرفت فيما بعد انهما في هذه الحالة منذ وقع الطلاق!! حاولت الاتصال على زوجة ابيهما (فلم اجدها) لانها دائما تتهرب ولا تريد التحدث عنهما, استدعيت (بشاير) يوما ما الى مكان آخر وقلت لها: لتعتبريني صديقتك ونحاول ان نزور أمك.. ولتبدئي بالاهتمام بصحتك!! نظرت اليّ ولم تجب وكأنها تستفسر عن المطلوب!! قلت لها: حتما والدتك تحبك وتريد لك الخير أنت وأختك ولا بد ان تشعر بانك تحبينها ولتلمس اهتمامك بنفسك وبأختك وتحسنك! هزت رأسها موافقة قلت لنبدأ باهتمامك بمظهرك وبصحتك ونظافتك. قالت: انا أتمنى ولكن زوجة أبي لا تريد ذلك قلت: ابدا غير معقول انت تبالغين. قالت: أنا لا أكذب لانها دائما تجعلنا ننظف البيت ونسقي الزرع.. وتريدنا ان نطبخ لترتاح هي والخادمة!! كأنني اتابع مسلسلا كتبت احداثه من نسج الخيال! قلت: حاولي ألا تذهبي الى البيت إلا وانت على استعداد تام للتغلب على المصائب وتتمسكين بالصبر والحلم رأيتها خائفة وان كان لديها الاستعداد التام! قلت لها: سأجعلك تكلمين أمك وتقابلينها ان اطعتني. ما كنت أتصور ان يحدث لهذا الوعد ردة فعل كبيرة: لكنني فوجئت بها واذا بها تقوم من كرسيها المتحرك ماشية على رجليها وتقبل رأسي.. وتقبض علي يدي وتقبلهما وهي تقول الحمد لله, الحمد لله (هذا من فضل ربي) انا أحبك لا تبتعدي عني لحظة واحدة وانت سبب كل الخير لنا بعد الله سبحانه وتعالى قالت لها: ساعدك اسمعي نصيحتي اليك.. قالت: لا تخبري أبي زوجته بهذا الخبر الذي يسرني (وعقبال أختي) ان شاء الله لتصبح مثلي حتى لا تضربني زوجة أبي وخاصة عندما تعلم أنني استطيع الآن الاعتماد على نفسي كليا. كررت بشاير. بدأت (بشاير) تهتم بنفسها وبأختها فتبدلت حالتها اتصلت بأمها وأخبرتها عما حدث لابنتها, قالت وهي تكتم العبرات: هل هذا صحيح, هل هذا صحيح, لا أصدق ما تقولين ياأختي (نوال) طلبتك ان أراها وأسمع صوتها. انا منذ ثماني سنوات لم اسمع صوتها أو اتلذذ بمشاهدتها هي وأختها الصغيرة (نوف) لم اتمالك نفسي فدمعت عيناي. قلت ستكلمينهما لكن بودي ان تساعديني في محاولة ارفع معنوياتهما وشجعيهما على الاجتهاد والجد والمثابرة.. ولنبدأ بتعليمها تعاليم الدين الحنيف والصبر عند المصائب ولنغرس فيهن الأخلاق العالية والعلوم النافعة ونبعث بذلك رسالة لأبيهما وزوجته!! قالت والدتهما: (الله يسامحه) كنت له نعم الزوجة.. ولكن ما أقول إلا الله يسامحه ثم قالت: المهم أريد ان اتحدث معهما بالهاتف, قلت حالا.. لكن كما اتفقنا لا تحدثيهما عن مشاكلهما مع زوجة ابيهما.. قالت: لا.. لن أفوه بأي شيء. دعوت الطفلتين وأغلقت الباب.. اسرعتا الي واخذتا السماعة من يدي وقالوا: أمي.. أمي.. أمي تحول الحديث الى بكاء وصراخ وأنين. إذ اختلطت الدموع تركتهما يفرغون ألما ملأ فؤاديهما.. وشوقا يسكن قلبهما ثم اخذت السماعة منهما وكأنني أقطع طرفا من جسمي.. وقالت لي: سأدعو لك ليلا ونهارا.. لكن لا تحرميني منهما ولا يعلم بذلك والدهما, قلت: لن تحرمي من محادثتهما بعد اليوم.. وودعتها. قلت ل(بشاير) بعد ان وضعت سماعة الهاتف انصرفي وهذه المكالمة مكافأة لك على اهتمامك الفترة الماضية.. وأكررها لك ان اجتهدت أكثر!! عادت الصغيرة (نوف) وقبلت يدي وخرجت وقد بان عليها الرضا والفرح قالت: اعدك يا(نوال) ان اجتهد أنا أيضا كما تريدين لي انت ياحبيبتي. مضت الأيام والطفلتان من أحسن الى أحسن تتغلبان على مشاكلهما شيئا فشيئا. في نهاية العام أتت الطفلتان واحضرتا هدية قيمة لي, فبادرتهما بالهدية وارفقت بها رسالة لأبيهما وزوجته! كتبتها كما لو لم أكتب رسالة من قبل, كانت من عدة صفحات, بعثتها ولم أعلم ما سيكون أثرها وقبولها!! خالفني البعض من استشرت وأيدني البعض, خشيت ان يشعر ابيهما وزوجته بالتدخل في خصوصياتهما, ولكن المعاناة دعت الى كل ما سبق!! ذهبت الطفلتان الى بيتهما ومعهما الرسالة والهدية ووضعتاها في يد أبيهما وزوجته!! وفي صبيحة يوم آخر قدمت نفس المكان واذا بالطفلتين قد ألبستا أجمل الملابس ويمسكن بيديهما رجلا وزوجته. أسرعت الى (بشاير) وسلمت عليّ وجذبتني حتى تقبل رأسي!! وقالت: يا(نوال) هذا أبي وزوجته ليتكم رأيتم الفرحة في عيون الطفلتين الصغيرتين..ليتكم رأيتم الاعتزاز بوالدهما وزوجته!! ليتكم معي لشعرتم بسعادة لا تدانيها سعادة!! أقبلت المرأة وسلمت عليّ.. وفأجأتني برغبتها تقبيل رأسي فأبيت وأقسمت بألا تفعل وقولها لي: الآن صفى قلبي وفتحت عيناي على الدنيا.. أنا كنت في زوبعة وفي دوامة!! طلبت الحديث معها فقالت: يا أختي (نوال) لا تزيدي جراحي جراح.. يكفيني ما سمعته وقرأته في رسالتك ومعاناتهما!! وقالت: استغفر الله استغفر الله.. ثم قالت: نعم انا الجانية والمجنية.. أنا الظالمة والمظلومة!! أما قول الأب سأعوضهما عما مضى وسأعيد أمهما.. وبالفعل تغيرت احوالهما.. وأصبحت زيارتهما لأمهما بشكل مستمر!! وودعتني زوجة الأب وطلبت مني ان اتقرب اليها أكثر وان أصبح اختا لها منذ الآن. أيها الأحباب كم أحدث الطلاق من معاناة! كم من أمثال هؤلاء الأطفال! آه كم أتمنى معرفة اخبارهما بعد هذه السنين من تجربتي معهما. رعاكما الله يا(بشاير) ويا(نوف) وأصلحكما وأقر بكما والديكما. نوال ابراهيم الجندان - الدمام