أفرح وابتهج عندما أسمع عن رواية او مجموعة قصصية وطنية ..أي إنتاج وطني . وأبحث عنها حتى تقع بين يدي وأشرع في قراءتها وأقول لكم بكل حسرة أنني أصاب بخيبات الأمل كثيرا .. لأن الأعمال الابداعية الحقيقة هي التي تنبت من وعي الأمة وطنيتها شعرا أو رواية او قصة , هي التي تلبس لباس البيئة بشكل تلقائي , وعفوي وفني رفيع .. هي التي تتوغل الى نفوس الناس وتحاكي شيئا في وجدانهم .. وتتحسس وتلامس أدق التفاصيل النفسية في دواخلهم. اما إذا حادت عن ذلك فهي تسقط في ذلك الفراغ النفسي البعيد عن هموم الناس والمجتمع , وهي بذلك لا تواكب روح المجتمع أو تتحدث عن شجونه.. بل هي تنحو بذاتها عن الواقع من خلال قضايا ليست هي بالضرورة اهم الأمور التي تمس وعي الناس .. وذلك من أجل تحريض الحواس , وربما الغرائز. لقد أصبحت الكتابة مثلا عن الجنس والنقد الديني توابل وحوارات ضرورية للاستساغة , وإحداث الضجة الروائية أو القصصية بل أصبحت تأشيرة دخول الى عالم الشهرة. فكم يسر الروائي او القاص أن تتحدث عنه او تهاجمه جريدة أو منبر فهو بذلك يتقلد وسام الشهرة. وهذه طريقة أو حيلة يلجأ اليها العاجزون وقصار الموهبة صحيح ان بعض الروائيين مثل نجيب محفوظ تناولها ولكن ( نجيب محفوظ) يختلف فقد كان يستعملها بذكاء وتناسب , فهو يلتقطها من واقع المجتمع وحياة الناس لتأتي متوازية مع الهموم الأخرى التي نسجت منها الرواية , وليست مقحمة إقحاما غبيا الهدف منه التسويق والبحث عن الشهرة أو إثبات الشجاعة على اقتحام المحذور الديني أو الأخلاقي.. الرواية أو القصة العظيمة هي التي تأتي منسجمة مع ذاتها مثلما تنسجم القصيدة الرائعة والموسيقى الرائعة واللوحة العظيمة ... وهذه تحتاج الى قدرة الفنان الأصيل وليس الروائي أو القاص المفتعل.. الذي يسعى الى أن تسبق روايته حمولة إعلامية مكثفة. صحيح إننا في عالم يسوده التطبيل والتهويش , والتلميع , والتضليل وأن سوق الرقاعة نشط .. وأنه لم يعد هناك تمييز حقيقي بين العمل الراقي والعمل الواطي إلا كثرة التطبيل والترويج , لكن هذا لم يستمر طويلا لأن الرهان سيكون على حكم القارئ وذوقه أخيرا. فكثير من الروايات نسمع عنها وربما تنشر فصول منها في صحف الترويج , ولكننا حين نقرأ نصاب بالملل والكسل وخيبة الأمل منذ صفحاتها الأولى فنرميها في أقرب سلة مهملات وننساها , وبعدها لن تنطلي علينا الخدعة مرة أخرى , لأننا اكتشفنا بكل بساطة أن المسألة كلها نصب واحتيال. بينما تظل الأعمال الصادقة والمبدعة حالة من حالات الاستهواء والإغواء فننصرف إليها ونقرأها مرة بعد مرة وهذا هو الفرق بين العمل المزيف والعمل الراقي العظيم , بين العمل الدعائي والعمل الإبداعي الخالد .. لا تزال قصص تشيخوف ويوسف إدريس , وروايات دستوفيسكي ونجيب محفوظ يقرأها الصغار والكبار ويعجبون بها ويطربون لها. ان الرواية أو القصة إذا جملت فوق طاقتها بطريقة اعتسافية تحولت الى منشور سياسي او عقائدي .. والذين يلجأون إلى هذا الأسلوب انما يركبون ظهر الرواية كبغلة .. بينما المفترض ان تكون عملا ابداعيا أخلاقيا قد تتجلى فيه موهبة الفنان أكثر ما تتخلى فيه مهنة الحوذي. فهل سنظل نتحدث عن روايات روائيين كبار ونحن ننتج منشورات وحوارات سياسية او عقائدية على أنها روايات حقيقة , نحن بذلك نوهم أنفسنا ونغش أنفسنا .. وأن نحن استمرينا على هذا المنوال فلن تنجح معظم رواياتنا وقصصنا في الامتحان النهائي. فهل سيظل إنتاجنا في هذا خاضعا للاعتبارات الشخصية والمجاملة أكثر من خضوعه للعمل والعطاء الإبداعي الرفيع.. الحقيقة اننا محتاجون إلى نقاد لا يخشون في عملهم المهني لومة لائم. ولا يخضعون لعواطف المجاملة أو العاطفة والانتماء الفكري أو النفاق النقدي. نحن محتاجون إلى نقاد بنائين، وشجعان يمتلكون من صلابة الرأي ما يجعلهم فعلاً يتحملون أمانة بناء الوعي الثقافي، وإلا فإن مزيداً من النشرات المختلفة، ومزيداً من الحكايات الباردة والتي تسمى قصصاً وروايات، سوف تتراكم على الرفوف يحاصرها الخواء والغبار وربما الغباء، لسبب واضح وهو أنه لا علاقة عضوية ولا قرابة ثقافية ولا صلة رحم بين ما في هذه الأعمال وبين الإبداع الحق. جريدة الرياض العدد 12723 في 25/ إبريل 2003 الجمعة