تشكل الفلسفة والدين ظاهرتان متميزتان في تاريخ الفكر البشري, فهما تلتقيان في الكثير من المسائل الجوهرية, ولاسيما منها المسائل التي تدور حول مبدأ الخلق والخالق, والنشأة والمصير, والحكمة من خلق هذا الوجود, وغير ذلك من المسائل التي هي في جوهرها محاور اساسية في الرسالات السماوية المختلفة, كما هي محاور أساسية في الفلسفة ايضا! ومن خلال استقرائنا لابرز مسائل الفلسفة ومقابلتها بالمسائل الدينية نرجح ان بدايات الفكر الفلسفي قد انطلقت من الرسالات السماوية, ومما يؤكد زعمنا هذا ان ابرز مقولة للفيلسوف الاغريقي طاليس (620 550 ق. م) الذي يعده المؤرخون (أبا الفلسفة) تقول ان نشأة العالم ترجع الى عنصر واحد هو الماء, وهذه في الحقيقة فكرة قديمة جدا نرجح انها وردت في بعض الكتب السماوية الاولى على غرار ما وردت في القرآن الكريم كما في قوله تعالى : (وهو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) هود 7, وهذا ما يوصي بأن الفكر الفلسفي قد نشأ كرجع الصدى للرسالات السماوية التي تضمنت الكثير من الاشارات الى ظواهر الكون ومخلوقاته, وطبيعة العالم ونشأته ومصيره, وغير ذلك مما اصبح فيما بعد مسائل اساسية في الفلسفة تعاقب على تناولها ومناقشتها معظم الفلاسفة على مدار التاريخ. الا أن الفلسفة تختلف عن الدين بأنها تعتمد العقل مرجعية أساسية ووحيدة لها, ولا تقيم وزنا للمسلمات مهما كان مصدرها, اما الدين فهو الى جانب اعتماده للعقل والبرهان العقلي فانه لا يغفل الغيبيات, بل انه يجعل بعضها معلوما من الدين بالضرورة لا يجوز لمؤمن ان ينكرها, وهنا تكمن نقطة الخلاف الجوهرية بين الدين والفلسفة, وهو في الحقيقة خلاف مفتعل من قبل بعض الفلاسفة الذين يقفون من الدين مواقف سلبية بحجة ان الدين يستخف بالعقل, ويعول على الخرافة والمعجزة والاسطورة على حساب الواقع والتجارب العلمية والبرهان العقلي.. وهذه كلها اتهامات لا اساس لها من الصحة, وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة واجماع الفقهاء على ان العقل هو اساس التكيف الشرعي, وحفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تتوجه بالخطاب الى (.. الذين يعقلون.. أولي الألباب.. الذين يتفكرون.. الذين يتدبرون..) , كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العقل هو أصل التكليف فقال : (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ, وعن الصبي حتى يحتلم, وعن المجنون حتى يعقل), وهكذا نجد ان الدين كالفلسفة لا يتجاهل العقل, ولا يهمل البرهان العقلي? ولكنه في الوقت نفسه يمتاز عن الفلسفة بنظرته الشمولية للوجود, تلك النظرة التي لا تتوقف عند العالم المادي المشاهد المحسوس فحسب, بل تتعداه الى عالم الغيب الذي تؤكد آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس انه اوسع وأرحب من عالم الشهادة بما لا يقاس! (وللحديث صلة بإذن الله).