قد يبدو بعض المخترعات منتجات كمالية في بادئ الامر لكنها سرعان ما تصبح ضرورة ملحة وقيدا لا فكاك منه. خذ، على سبيل المثال، هذا الحاسب الآلي المتربع على مكتبك.. فقد اصبح القلم الذي نكتب به، والورقة التي تكتب عليها، والصندوق الذي تتلقى منه الرسائل، وشباك البريد الذي تبعث منه بالرسائل، والفاكس الذي تتبادل عبره الرسائل الهاتفية، وكشك الجرائد الذي تتصفح عنده الصحف والمجلات، والموسوعة التي تمدك بالمعلومات, والقاموس الذي تلجأ اليه لترجمة ما استعصى من مفردات، وقد يحل محل الهاتف عبر غرف المحادثة السمعية والبصرية، وهو شباك لتسديد الفواتير، ومحلات للتسوق عبر الانترنت، وهو مكتبة بحجم العالم، و (سوق عكاظ) للمسامرات والمحاورات الادبية، و(هايد بارك) للتعبير عن الرأي. وها هو يقوم بدور (الخاطبة) لمن يبحث عن نصفه الضائع. وهو الخطاط وملون الرسم والفرشاة والالة الحاسبة ودليل الهاتف والساعة والمفكرة، والقائمة تطول.. هذا على صعيد الاستخدام الشخصي، فكيف باستخدام هذه الآلة الذكية ذات المهام المتعددة على مستوى المؤسسات العملاقة ذات الوظائف والاهداف المتعددة؟ لا غرابة، اذن ان يصاب المرء بالضيق او الاكتئاب يوم يأخذ صندوق الذاكرة الى الطبيب الالكتروني، ليعالجه من وعكة بسيطة عابرة، او من مرض عضال يستدعي الدخول الى غرفة العناية المركزة، سيجد المستخدم يومئذ نفسه في مأزق، وكأن شيئا قد تعطل او شل. وما كانت مثل هذه الحالة من الحيرة والضيق والاكتئاب لتحدث قبل ان يتغلغل هذا الجهاز في الحياة اليومية، ويصبح جزءا اساسيا من روتين الممارسات اليومية. وتذكرنا هذه الحالة بتيارين من المنظرين يتهم احدهما نظيره بالنفاق، ويتهم الاخر الاول بالانانية، يرى الاول ان السعادة نسبية، وان الفلاح في جنوب شرق آسيا مثلا، سيكون اسعد حالا لو نأى بنفسه عن مخترعات التكنولوجيا كالفرن الكهربائي والمكيف والثلاجة والتليفزيون والحاسب الآلي. وان المشكلة تبدأ عندما "يدمن" استخدام هذه الوسائل العصرية ثم يحرم منها، او يقضي العمر لاهثا لتوفيرها. وحسب وجهة النظر هذه فإن الخطب والمقالات التي تقترح تعميم هذه المنتجات على فقراء العالم ليست الا شكلا من اشكال الحذلقة والنفاق. ومع ان هذا الرأي قد يبدو متناغما مع الحكمة القائلة: (كما ازدادت رغباتك او مطالبك ازدادت اغلالك)، الا انه قول مراوغ ولا اخلاقي من وجهة نظر الداعين الى تضييق الهوة التكنولوجية بين بلدان الشمال والجنوب. اولئك الذين يعتقدون باهمية استخدام التكنولوجيا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويرون ان على دول الشمال ان تفي بالتزاماتها، وان تسدد شيئا من ديونها المستحقة نظير فترة الاستعمار واستنزاف ثروات الجنوب، وان صيحات التزهيد ليست سوى ذريعة للتملص من تلك الالتزامات. نعود الى الآراء المتجهة عكس التيار، او المناوئة لتغلغل التكنولوجيا وسيطرتها. اذ يرى هؤلاء ان البشر قد اصبحوا مستعبدين لبعض تلك المخترعات التي وجدت اساسا لتحرير الانسان الكدح والشقاء.. هكذا اصبح السيد مسودا بعد ان احتلت التكنولوجيا جزءا من حياته اليومية، وغيرت انماط السلوك والعادات بشكل سلبي، وطبعت الفرد بطابع الكسل والتواكل، فاصبح اقل انتاجية، واقل مهارة من ذي قبل. ولوث بعض تلك المخترعات البيئة، واساء الى الطبيعة والى الكائنات الحية التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب، وتغيرت في عصر التكنولوجيا الحديثة حتى نكهة الطعام، وقلت قيمته الغذائية. وقضى بعض المخترعات على البقية الباقية من التواصل الاجتماعي والاسري، ناهيك عن اختراق بعض تلك المخترعات لحياة الناس الخاصة والتطفل عليها. واذا استثنينا غزارة الانتاج في المصانع والورش، وسرعة الاتصال، وبقية الايجابيات الناجمة عما توفره الآلة من تسهيلات في كافة مجالات الحياة، اذا استثنينا ذلك، وتحدثتا عن الجانب الابداعي، فان السؤال الذي الذي يطرح نفسه هو: هل اصبح الفرد اكثر ابداعا من ذي قبل؟ وهل الاعمال الابداعية التي انجزت على ضوء (مصباح النيون) اكثر تألقا وجمالا من تلك التي انجزت على ضوء (مصباح الكيروسين)؟ ام ان هذه الالة الذكية - الغبية التي اكسبتنا المهارة والسرعة في انجاز اعمالنا قد ساهمت في تبلد الذهن وحرمانه من معطيات فكرية وثقافية كثيرة. انه لمن السهل، كما يرى هؤلاء، ان تقع اسيرا للاشياء، ولكن من الصعب ان تستعيد حريتك المسلوبة بالسهولة نفسها. وبما انك قد ادخلت التكنولوجيا في حياتك فانت وحدك القادر على تحديد نسبة تغلغلها او نسبة ارتباطك اليومي بها. ان ذلك يتطلب جهدا ووقتا للتخلص من كثير من العادات والممارسات المرتبطة بالمنتجات التقنية. لكن في مقابل هذه الاصوات المحذرة المنذرة تتعالى اصوات اخرى ترى في ذلك شكلا من اشكال النقيق الذي لا موجب له. اصوات تتهكم قائلة: يبدو انه لا يوجد شيء في هذا العالم الا ويجد له مناوئا واحدا على الاقل. اجل.. نحن اسرى التكنولوجيا، وراضون بهذا الاسر. لكن جربوا ا تعيشوا بدون مياه نقية، بدون تدفئة، بدون بيوت حديثة، بدون مكاتب مكيفة، وبدون مواصلات سريعة. اذا كانت التقنية ترعبكم الى هذا الحد فلا تستخدموها، اذهبوا وعيشوا حياة الكهوف والادغال، او توقفوا عن ازعاجنا بهذا النقيق. وبين هذين الفريقين النقيضين يرتفع صوت فريق ثالث يرى انه لا افراط ولا تفريط، وان الأمر يتطلب شكلا من اشكال التوازن بين التكنولوجيا والبيئة، بمعنى ان تستخدم تلك المخترعات استخداما عاقلا، وتوجه توجيها صحيحا، وان يواكب التقدم التقني تقدم اجتماعي وثقافي حتى لا ترجح كفة على حساب الاخرى.