محرر (اليوم) في جدة الاستاذ احمد الغامدي أتحف قراء (اليوم الثقافي) يوم الاثنين الماضي برصد مكثف لاحداث محاضرة (التيارات النقدية في المملكة.. نشأتها واتجاهاتها) التي ألقاها الدكتور سلطان بن سعد القحطاني في قاعة نادي الطائف الأدبي، ويبدو ان المداخلات التي تبعت المحاضرة كانت - مثل المحاضرة - ساخنة جدا، بحيث بقيت حرارتها متأججة في التغطية رغم عملية الاختزال التي يضطر إليها - عادة - المحرر، بسبب صغر المساحات الممنوحة له. المحاضر بعد مقدماته التاريخية حاول أن يبدو حياديا وصريحا، كما يظهر من التغطية الصحفية، وعرض لمسيرة الحداثة في المملكة بوصفه المذهب الذي كان له فضل تأصيل التيارات الموجودة في الساحة الأدبية كما يزعم، حيث ذكر أنه بظهورها في الثمانينيات الميلادية استطاعت ان تطغى على جميع التيارات النقدية، ولعله لا يريد سوى الإشارة الى الزوبعة التي صنعها هذا الدخيل على الساحة الأدبية، فإن التيار الحداثي بسبب كونه تيارا جديدا، مخالفا للسائد، فقد كان نشيطا متحفزا، فاعلا في المشاركات الصحفية خصوصا، لاستيلاء عدد من أتباعه على ملاحق الأدب في كثير من صحفنا، مما جعله ينفخ في شخصيات كل من يكتب في حقله، ويرمي في أشداق النفايات كل ما عداه، مما أعطاه زخما إعلاميا طاغيا، ولكن لكونه - مع ذلك - مناهضا للموروث، محاربا للثوابت، معتديا على اللغة، فقد لقي معارضة شديدة من جميع الفئات المثقفة في المجتمع السعودي، ليس على مستوى علماء الشرع كما يحب الحداثيون المنهزمون ان يروجوا، ولكن ايضا على مستوى المبدعين، والنقاد الواعين، الذين واجهوا هذا التيار بعدد من المؤلفات، والمحاضرات، والمقالات الصحفية، حتى تبين الصبح لذى عينين، وأعلن أساطين الحداثة في بلادنا فشل المشروع الحداثي في المملكة. الذي أريد أن أؤكده هنا أن الحداثة في نشأتها الغربية لم تكن سوى مبدأ فكري، ومذهب فلسفي، اتخذ من الأدب وسيلة لبث رؤيته الجديدة للكون والحياة، تذرع أصحابه بوسيلة الأدب، مخفين تلك الأيدلوجية الى حين، وان عددا من المنتسبين اليه في العالم العربي كانوا على علم كامل بهذا حين انتموا اليه، في حين تعلق به آخرون على انه مذهب أدبي فقط، ولكن سرعان ما بدأ الغرب يتخلى عن هذا المذهب، ففقدت حداثتنا العربية مرجعيتها، في حين كانت الضربات الموجهة لها في بلادنا قوية جدا، مما جعلها تكمن الى حين، ولذلك حين قال المحاضر:(إن التيار الحداثي قضى على نفسه بنفسه، ولم يقض عليه أحد) وهو قول غير دقيق من وجهة نظري، لم أفاجأ ابدا برد الدكتور جريدي المنصوري (ناقد حداثي معروف) الذي عد (هذه الرؤية سطحية، وانه لا يمكننا ان نتصور ان يكون التيار الحداثي قد اختفى، انه اندثر كما يقرر المحاضر، بل ان الحداثيين قد غيروا تكتيكهم بما يتناسب مع معطيات العصر دون ان يعلنوا عن هذا التغيير) فان هذا ما كنت اقوله وان لم اكتبه، فان الحداثيين ليسوا ديناصورات تنقرض، بل هم عقول مفكرة، تتمتع بقراءات واسعة، وقدرات نقدية هائلة، استطاعت - على قلة عددها في الساحة - ان تثبت وجودها، وان تغري جميع السبابات في ايدينا ان تشير اليها، معها او ضدها، ونجحوا نقديا، ولكنهم خسروا الميدان الإبداعي، وفقدوا المتلقي، وجفاهم حتى المختصون بسبب غموضهم الممض، فراحوا يركبون موجة العولمة، لكونها صالحة لإثبات وجودهم الثقافي من جديد فكانوا من اوائل من حاضر عنها وبشر بها، وكتبوا فيها بطريقة جعلت القارىء يحس بأنها داخلة عليه من النافذة إن لم يفتح لها الباب، وأنها لا محالة ستسقط هويتنا وستغير كل شيء في حياتنا بحسب ما يريد الغرب (المعولم) أو (المؤمرك) شئنا أم أبينا ، وهذا - في الواقع - هو هدف الحداثة السابق غير المعلن، وان كانت التداعيات الحضارية لأحد عشر سبتمبر قد أحبطت مؤامرة العولمة، وباتت مستهجنة ممقوتة من المتلقي المسلم عموما، ولذلك على الحداثيين ان يبحثوا لهم عن مركب آخر. واني لا استبعد ان يكون النقد الثقافي الذي يتبناه الناقد الكبير الدكتور عبدالله الغذامي هو من هذا التكتيك غير المعلن، ومن قرأ تطبيقاته بهذا الحس فسوف يكتشف ان ناقدنا العالمي في (ثقافة الوهم - مقاربات حول المرأة والجسد واللغة) على سبيل المثال، اراد ان يقول: ان المرأة لم تنل حقوقها ابدا طوال تاريخها البشري، وانها مقموعة من قبل الرجل، وكل انجازاتها (مجيرة) لصالحه، وان من ابرز اسباب ذلك ان الثقافة الاجتماعية تجر الى تصورات تنغرس في الذهن، وتتحول الى معتقد وهو ما سماه بالجبروت الرمزي، وهو ما يركز عليه الحداثيون اليوم في مقالاتهم في المناداة بقضية فيها حق ولكنهم يوظفونها لمآربهم الخاصة، وهي ان الموروث الاجتماعي الظالم وليس الشرع هو مشكلة المرأة في بلادنا، ثم يذهبون في الفتاوى النسائية في الحجاب وعمل المرأة ونحو ذلك كل مذهب، لتنساق مع رؤاهم الخاصة. تلك رؤيتي.. هل أغضبت أحدا؟ لا أتوقع.. لأن الحداثيين هم أكثر المثقفين مناداة بحرية الرأي.. وضرورة تقبل الرأي الآخر..