بلغ التأزم الحقيقي للحركة الأدبية الحديثة في المملكة مداه في العقد الممتد من فاتحة القرن الهجري الخامس عشر وحتى نهايته (الثمانينيات إلى التسعينيات من القرن الميلادي العشرين)، وهي تلك المدة التي شاعت فيها المفهومات الحديثة في الشعر والقصة القصيرة النقد، وكان للصحافة الادبية، وبخاصة في صحف «اليوم»، و«الرياض» و«عكاظ» أثر في ترسيخ القيم الأدبية والفكرية الحديثة، وسط أجواء من التحولات العميقة التي طرأت على الدولة والمجتمع، وكان من اصدائها صعود الاقتصاد السعودي وهبوطه، بسبب الوفرة النفطية التي احدثت ما يعرف في الادبيات الاقتصادية ب «الطفرة»، وعودة جمهرة كبيرة من الطلاب السعوديين المبتعثين إلى الخارج لاكمال دراساتهم العالية، وغزو الاتحاد السوفياتي السابق لأفغانستان، وقيام ما يسمى ب «الجهاد الأفغاني»، وتقويض النظام الشاهنشاهي في إيران وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتأزم الأجواء العربية بسبب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وصعود القوى الدينية الراديكالية التي كان نماذجها، محلياً، احتلال مجموع من المتشددين الإسلاميين للحرم المكي الشريف عام 1400/ 1979م. ويلفت النظر أن المد الأدبي والثقافي الحديث تنامى في مطلع القرن الخامس عشر الهجري (الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين)، دون أن يحدث ذلك ضجيحاً وصراعاً، وشهدت المحافل الأدبية في المملكة صدور عدد من الأعمال الشعرية والقصصية التي لم تحدث صراعاً عنيفاً، فها هي ذي الأعمال الشعرية الأولى لمحمد الثبيتي «عاشقة الزمن الوردي: 1402/ 1982م»، و«تهجيت حلماً، تهجيت وهما: 1404ه. 1984م» ومحمد جبر الحربي «بين الصمت والجنون: 1984م»، و«ما لم تقله الحرب: 1985م»، يوازيها ما ينشر في الصحف لعلي الدميني، وعبدالله الصيخان، وخديجة العمري، وعبدالله الزيد، ومحمد عبيد الحربي، وعلي بافقيه، وكان بإمكان هذه الحركة الحديثة أن تؤتي أكلها، ثقافياً، لو لم يحدث ذلك الصدام الكبير الذي وقع بين «الحداثيين» والقوى المحافظة في منتصف ذلك العقد، وهي القضية التي يتحمل الفريقان تبعاتها معاً. وكان مما ساعد على اشتعال الخصومة التي أريق فيها حبر كثير، نزوع عدد من النقاد الأكاديميين إلى تحويل المحافل الثقافية في المملكة إلى ساحة للنزاع حول مفهومات نقدية غربية، صرفت جهد أولئك النفر من النقاد إلى رماد تلك النظرية دون أن يولوا كبير شأن للشجرة الذهبية للحياة، فحفل المشهد الثقافي في المملكة بجملة من الأفكار والنظريات النقدية الحديثة المتشظية، والمنتزعة من مهادها الفلسفي، وهرع بعض النقاد للترويج لها، فامتلأت المحافل الثقافية والصحافة الأدبية بمجرّة من المصطلحات «الحداثوية»: ك «البنيوية»، و«التفكيكية»، و«التناص» و«موت المؤلف»، و«البنية»، و«الخطاب»... الخ، فيما يمكن عده «إرهاباً مصطلحياً»، وشهد كتاب «الخطيئة والتكفير 1405ه/ 1985م» للنقاد الأكاديمي عبدالله الغذامي جدلاً واسعاً، لا يهدأ، حينا، حتى يشتد، وتحول المشهد الثقافي إلى موجة من «التجهيل» من جهة، و«التكفير» من جهة أخرى، ولم تكن المسألة متعلقة، في أساسها، بحضور النظرية النقدية الحديثة، فهي لم تكن غائبة عن المشهد النقدي في المملكة، فهذا كتاب سعيد السريحي «شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد: 1404ه/ 1983م» الصادر قبل كتاب الغذامي، يقارب الشعر القديم بمنهجية نقدية أسلوبية وبنيوية، وأجيز بصفته رسالة جامعية، من جامعة أم القرى، هذه الجامعة التي ستحجب - بعد حين ليس ببعيد - عن السريحي نفسه درجة الدكتوراه التي لم يحد فيها كثيراً عن منهجه السابق. وبينما أخلص سعيد السريحي للنقد التطبيقي الذي لم يخل من ظلال ظاهراتية تعلي من شأن اللغة التي يروضها الأديب في مواجهة الكون - كان عبدالله الغذامي مولعاً ب «النظرية» وبدا، كما في مقدمة كتابه «الخطيئة والتكفير»، كمن وضع يده على «الكنز» المخبوء، ترفده مفردات تنتمي إلى حقل «الطرد والفروسية» حين يرشح «الفارس» في تتبع أثر «الطريدة» حتى يفوز بها، وهي، ها هنا، ليست إلا «النظرية اللسانية» في نقد الأدب. «عندما تكون على وضح من نهار التاريخ، تقف على صهوة الزمن مواجهاً بقرون يتضاعف مدها الحضاري ومعطياتها النقدية، عربيها وغربيها، وتزمع - مع هذا - على الكتابة عن اديب متميز، فإنك حينئذ واقف على حافة زمن محفور في ذاكرة الإنسان حفراً غائراً يضيع فيه حسك حتى لا يكون له صدى أو ظل. فالتقاليد الأدبية المتوارثة من هذه الأزمان تواجهك بمد زاخر، لست أمامه بصامد إلا كصمود الريشة تهب عليها النسائم عليلها ومهتاجها. وأي مسلك تطرقه بقلمك ستقع فيه حوافرك على حوافر من فوق حوافر، تكدّس بعضها على بعض، ولحمها الزمن بلحمة لن يكون لك فيها مهما اوتيت من عزائم، وهي عزائم ستراها تتكسر على بعضها كما تتكسر النصال على النصال، فأي منهج نقدي تأخذ به. وأي رأي تسعى إلى تكوينه، وأي مدرسة تشكلها، لن تكون سوى حوافر تقع على حوافر غرست - من قبل - في جبين الزمن سابقة حتى وجودك، بل مكونة لوجودك. ولست إلا بعض صنائعها... ولذلك احترت امام نفسي، وأمام موضوعي، ورحت أبحث عن نموذج استظل بظله، محتمياً بهذا الظل عن وهج اللوم المصطنع في النفس، كي لا اجتر اعشاب الأمس، وأجلب التمر إلى هجر. وما زلت في ذاك المصطرع حتى وجدت منفذاً فتح الله لي مسالكه، فوجدت منهجي، ووجدت نفسي، واستسلم لي موضوعي طيعاً رضياً. وامتطيت صهوته امتطاء الفارس للجواد الأصيل». (ص ص 5-6) وغلب الطابع الاستهلاكي الترويجي على الخطاب النقدي والأدبي الحداثي، وأسهم بعض النقاد، وبخاصة عبدالله الغذامي وسعيد السريحي في الارتهان إلى الأدبيات الإيديولوجية في مناوءة «الخصوم» واستثارتهم، ومحاولة تغييب اي صوت لا ينتمي إلى الصوت «الحداثي» الذي يظاهرانه، وتعلق بجدار الحداثة الجمّاء الغفير من المتسلقين وممن لم يعان نفر منهم الثقافة ويخلص لها، وتناثرت في الصحافة الموالية لها مقالات حفلت بالمصطلحات النقدية الفلسفية التي تملأ الكون بهراً وضجيجاً، وما إن تفتش فيها حتى يتكشف لك خواؤها، ولكنها راعت المحافظين بما حسبوه تغريباً وغلوا حداثياً، وما هي إن فحصت عنها سوى برق خلب، ودفع بتلك الأفكار عن أن تفي ل «المعرفة»، فخاضت في حمأة الإيديولوجيا والنزال، ولم يقتصر ذلك على طائفة ممن رأوا في الحداثة شارة الصعود والتميز، ولكن ذلك تعدى إلى المتضلعين من النظر النقدي والعارفين بالآثار الأدبية فانحرف نفر منهم عن الاعتدال والقصد، ونزلوا على شروط مناوئي الحداثة وخصومها، وهم في مجملهم رقيقو العلم بها، ولا يعرفون من القضايا الفلسفية والنقدية الكبرى إلا عنواناً هنا وعنواناً هناك، ولكنهم استطاعوا أن يشدوا كوكبة من الحداثيين إلى حيث أرادوا، ودفعوا بالمعركة عن أن تكون صراعاً بين قديم وجديد، لتصبح صراعاً بين إيمان وكفر، ويتضح هذا الأمر إذا ما قابلناه بجهد ناقدين «حداثيين» لم يثيرا لغطاً كبيراً، على الرغم من اشتغالهما بأحدث النظريات النقدية التي عرفاها مباشرة من منابع الفكر الغربي الذي تخصصا فيه، وهما سعد البازعي وعابد خزندار اللذان تختلف لغتهما عن زميليهما في ارتهانهما إلى لغة أكثر هدوءاً، وأمس رحماً بالظاهرة الأدبية. وكان من أثر الصدام بين «الحداثيين» والقوى الدينية المحافظة أن تحولت قضية الحداثة إلى مادة يتغذى عليها الخطاب الديني المتشدد، ويوسع من دائرة جماهيره ومشايعيه: في المسجد، والمدرسة، وجبهت حركة الحداثة بكتيبة من النشرات والخطب الدينية، وأشرطة «الكاست»، واستطاعت أن تؤلب «المتدينين» وأن توغر صدورهم على «الحداِثيين»، وهم لم يعرفوا ما المقصود ب «الحداثة»، ولا يعرفون من هم «الحداثيون»، ولكنهم جعلوهم، منذ تلك اللحظة، هدفاً لسهامهم، وبلغت تلك الحملة غايتها بصدور كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام: 1408ه/ 1988م» لعوض القرني الذي غذى مناوئي الحداثة بما عده دليلاً على سقوطها وتفسخها، ودفع بالقضية عن أن تكون قضية ادبية وفكرية لتصبح أمتّ صلة ب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، و«الولاء والبراء»، ويصبح كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» - كما أراد له مؤلفه وكما أريد له من المقدمة التي مهد الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - للكتاب - الكاشف عن زيف الحداثة وضلالها، والقول الفصل فيها، وما دام القرني يحمل في يديه «ميزان الإسلام» فكان من السائغ أن يأخذ على أيدي «الحداثيين» حتى يكشف ما زعمه ضلالاً وزيغاً، وأن يرشد الحائرين إلى معالم الطريق السوي، ومن تردد وحار فما عليه - كما يقول - إلا «أن يقرأ هذا الكتاب، ثم يحتكم إلى كتاب ربه وما يمليه عليه إيمانه فقط»(13) ولا سيما أن هذا الكتاب ألقى في روع قرائه من «عامة» المتدينين إحاطته بالجذور الفلسفية والاجتماعية لحركة الحداثة في الغرب، فتهافتوا عليه وغفلوا عن وهنه وضعفه ورقته وعريه من المعرفة. فليس لهم إلى المنهج من سبيل، وقد استمالهم الكتاب بالتوجع على الدين، والتفجع عى الأخلاق والقيم، فوُوجهت بموجة من الرفض الاجتماعي ل «الحداثيين»، وحلمت المصطلحات الفكرية والادبية بسبب هذه الفورة بحمولات «تهجينية» تنظر بارتياب إلى مفردات «الحداثة»، و«اللبرالية» و«العلمانية»، وأضاعت الفرصة التي كانت سانحة لتجذيرهم قيم النهضة والتقدم والاستنارة التي سعى نفر من المثقفين إلى «توطينها»، على مبعدة من ذلك الجدل المحتد، ومن ذلك الدراسات الفكرية المبكرة لاسامة عبدالرحمن، وتركي الحمد، والمحاضرات والمقالات المتناثرة لمحمد العلي، ولا ينتهي هذا الجدل الحامي إلا بقيام حرب الخليج الثانية التي ستدخل العالم والمملكة إلى مرحلة ما زلنا نعيش تبعاتها.