الحلقة (2) لقد تطرقنا في الحلقة السابقة لمفهوم الوهم بشكل عام وقد قسمنا الوهم في الادارة الى ثلاثة اقسام شرحنا اولها وهو وهم المعرفة حيث يتوهم المرء معرفة ما لا يعلمه في الحقيقة، ويتصرف على هذا النحو مما يضعه في سلسلة من الالتزامات والمسئوليات بدون استعداد لها، أما في هذه الحلقة فسنقوم باستعراض مفهوم الجانب الثاني من طرحنا وهو: "وهم الثقة" @ الثقة هي شعور مكتسب يأتي عادة بعد المرور والعرض لتجارب عديدة من المعاملات بين طرفين واكثر وينتج من خلالها احساس بالارتياح والاطمئنان في التعامل بينهما، وهو ما يسمى شعور الثقة واذا ما وجد هذا الشعور لدى اي فرد بدون مبررات او مقدمات في التعامل والتجارب المسبقة لتأكيده، فغالبا ما سيكون هو "وهم الثقة". @ وعلى خلاف القسم الاول من الاوهام حيث يكون ضحية وهم المعرفة في الغالب هو العامل او الموظف، الا ان القسم الثاني منها "وهم الثقة" يصيب كلا الطرفين صاحب العمل والموظف سواسية، وقد يؤدي التمادي في التعرض له الى قيام احد الاطراف باستغلاله لتحقيق مصالحه على حساب الطرف الاخر، ولتقريب معنى وهم الثقة في مفهومنا الاداري سنسرد هنا مجموعة من الامثلة من الواقع، ونأمل ان تكون واضحة وافية للقارئ الكريم. @ تبدأ عادة قطاعات العمل المختلفة (من مؤسسات وشركات او حتى اصحاب المشاريع المتنوعة الاخرى) بداية متواضعة توضع لها مسبقا اهداف معقولة كي يتم تحقيقها خلال فترات زمنية محددة، وتسعى ادارة هذه القطاعات (فردية كانت او جماعية) لتذليل كل العقبات للوصول سريعا الى اهدافها، ونرى ضمن محاولاتها مثلا قيامها بتوظيف افضل الكفاءات، توفير افضل الادوات والمعدات والمكاتب والمباني والسيارات والاثاث والديكورات.. الخ، وطبعا تعيين احسن المستشارين والقياديين وبذل كل ما من شأنه اظهار القطاع بالمظهر الجيد والحسن، وقد توضع ميزانيات للدعاية والاعلان والتسويق ايضا. @ وبمجرد ان تتحرك هذه القطاعات في اتجاه تحقيق اهدافها (ولو شيئا يسيرا) والتي غالبا ما يحتاج تحقيقها لفترات زمنية تزيد على المدة المحددة في الخطة الاساسية، وحسب وضع وظروف السوق او المؤثرات الاخرى، وما ان تستشعر ادارة هذه القطاعات بالتغيير الايجابي لديها وبدء نجاح خطتها (بالرغم من عدم انجاز كامل الخطة بعد!)، حتى ينمو الشعور لديها بالثقة المفرطة وهذا الشعور هو رد فعل طبيعي لبدء نجاح تخطيطها المسبق والنتائج الايجابية، ولا ضرر فيه ولكن استباقها في شعور الثقة نفسه قبل التأكد من تحقيق كامل النتائج والاهداف سيكون له تأثير سيئ في اسلوب ادارة هذه القطاعات، وهو ما نعنيه ب "وهم الثقة" وقد تظهر هناك مجموعة من السلوكيات السلبية تؤكد خضوع إدارة هذه القطاعات لظاهرة وهم الثقة. @ عند التعاقد مثلا مع موظف في أي قطاع كان، يتم تحديد مدة زمنية لعقد العمل بين الموظف وصاحب ولا يشترط طبعا اي تعديل في بنود هذا العقد طالما هو ساري المفعول وفق مدته الاصلية، ولكن يفترض قبل تجديده ان يتم الاتفاق بين الطرفين على ما قد يحقق رضا كليهما واستمرارهما في العمل، ما يحصل في الواقع لدى غالبية القطاعات هو وبمجرد ان يتأكد صاحب العمل من نجاح الموظف في عمله ومساهمته بتحقيق اهداف القطاع لديه، تزداد عنده (أي صاحب العمل) حالة من وهم الثقة، ويبدأ في التغاضي اما سهوا او عمدا عن مناقشة تجديد شروط التعاقد مع الموظف عند اقتراب نهاية عقده، وغالبا ما يفترض ان مجرد السماح ببقاء الموظف على رأس العمل والاستمرار لفترة اخرى بنفس الشروط السابقة يعتبر مكافأة له من قبله!، وطبعا فإن وهم ثقته بنجاح مؤسسته او شركته او مشروعه يكون قد أثر هنا عليه سلبا وعلى قراره في الاهتمام بموارده البشرية من موظفين وعمال والذين يعدون السبب المباشر لهذا النجاح وهم ايضا شركاء صامتون له في تحقيق اهداف قطاعه ونجاحه. @ نرى الشركات والمؤسسات في بداية تشغيلها تبحث جاهدة لاستقطاب كفاءات متميزة وجيدة ومؤهلة من العمالة والموظفين فتعلن في الصحف والمجلات والاذاعة والتليفزيون او عن طريق وسطاء استقدام احيانا، وتقدم شرحا وافيا عن شروط ومميزات الوظائف والعمل والاجور، وما ان تحقق هذه القطاعات النجاح ولو في بعض اهدافها المرجوة حتى يبدأ وهم الثقة يزداد لدى إداراتها، وتتصرف كمن بلغ أعلى مراتب النجاح، وحتى انها لو احتاجت الى مزيد من العمالة مثلا فلن تعلن عنها الا بشكل مموه وبصورة نشرات غير واضحة وبعناوين اما مستعارة او مستترة تحت عنوان شركة كبرى او مؤسسة وطنية او مشروع تنموي، الخ، وبدون ذكر المميزات بل وربط المميزات بالمقابلة الشخصية، وبالطبع فان "وهم الثقة" لدى ادارة هذه القطاعات اثر على قرارها لاخفاء سماتها اعتقادا منها بأنه وبمجرد كشف بياناتها ستجعل الكثير من الناس يتهافتون ويتقدمون للعمل لديها ولكي لا يسبب ذلك لها حرجا اداريا، وحتى لا تتعرض لضغوط خارجية عليها فهي تسعى الى اخفاء اسمها وصفتها وعنوانها. @ وحدها أساليب الادارة الحديثة والعملية تجعل من الموظف حكما ومقيما لادائه وبنفسه عن طريق توفير ادوات قياس ملموسة وحسية، ومنها مثلا سجلات ضبط الدوام والانتاج، تقارير المبيعات والتحصيل والارباح، نماذج التقييم الاداري وما تحتويه من مميزات قياس وضبط، وكل هذه الاساليب اذا ما توافرت بدورها تشجع كل من حقق معدلات جيدة ان يطلب تعديل وضعه حسب ما تقتضيه ظروف العمل، ولكننا لا نرى هذه الادوات تستخدم في كثير من القطاعات، وان استخدمت مثلا فاما ان تعطل نتائجها بذرائع كثيرة او لا يتم الاعلان عنها خوفا من استخدامها للمطالبة بمكافأة أو زيادة او ترقيه (وكما هو يفترض). @ بدلا من تطبيق النظم المتعارف عليها في مفهوم الادارة الحديثة لتحفيز الاداء والانتاج، نرى صاحب العمل يعطي الوعود للعامل او الموظف بانه سيراجع وضعه لاحقا او ينظر في زيادة او يقرر تعديل وضعه مستقبلا، وطبعا كل هذه الوعود شفوية ولمدة مفتوحة وغير محددة أصلا، والعامل لاحول له ولاقوة سوى الوثوق بوعود مسئولة، وغالبا ما يستغل صاحب العمل والموظف به لتمرير مثل هذه الوعود والتي كثيرا منها يذهب ادراج الرياح حيث لا يوجد ما يلزم صاحب العمل بهذه الوعود طالما هي ليست مكتوبة!، وكما هو معروف جيدا للجميع، ان "وهم الثقة" مرة اخرى يؤثر على سلوك العامل ويجعله مطواعا ومستسلما لهذه الوعود فلا ينال منها شيئا عندما يحين وقت تنفيذها. @ قبل التعاقد مع اي موظف او عامل واثناء التفاوض الدقيق معه حول الاجر او الراتب، يقوم صاحب العمل باعتماد طرح أسلوب تجزئة الاجر المتفق عليه مع الموظف او العامل، وذلك بان يفترض دفع اجر معين خلال مدة محددة ثم يعدل بالزيادة الى ماهو اعلى وفق نتائج اداء وعمل الموظف خلال فترة اخرى من الزمن (وهذا بالطبع ليس خطأ او مخالفة إذا ما جاء برضا الطرفين والتزما به)، ولكن ما يحصل دائما هو اختلاف الطرفين عند حلول وقت تنفيذ وعد التعديل او الزيادة، فالموظف يرى قيامه بالمهمات المطلوبة واجتيازه المدة بمهارة مما يؤكد احقيته بالتعديل او الزيادة، بينما يرى صاحب العمل عدم تحقيق ذلك وبالتالي عدم استحقاق الموظف للتعديل وتنفيذ الوعد!، وهذا ايضا هو استغلال للظرف بسبب "وهم الثقة" من قبل كلا الطرفين. لقد أعطينا امثلة محددة لنماذج مختلفة يحصل بها عادة خلافات شاسعة بسبب تعرض اطرافها الى وهم الثقة في التعامل، وهذه الامثلة موجودة بكثرة في حياتنا الادارية اليومية وقد يتفرع منها مجموعة امثلة اخرى متنوعة ومختلفة، وهي جميعا تصب في نهاية المطاف ضمن مفهوم "وهم الثقة" في العمل الاداري، وهذا هو القسم الثاني من الاوهام التي حددناه في الحلقة السابقة، وبقي لنا شرح القسم الثالث من الاوهام في الادارة وهو "وهم القناعة" وسنحاول ان شاء الله توضيحه في الحلقة القادمة التي هي الاخيرة في هذه السلسلة فابقوا معنا والسلام.