الذين يعايشون حركة الزمن ويعيشون احداثها تمر بهم من خلال حركاتهم وقفات تستغرق منهم الكثير من التأمل والاستقرار والمراجعة لكل ما يطوف حولهم من مواجهة ترقى الى مستوى المواجهة.. بين خطوة جسورة تتحرك للأمام.. واخرى وجلة وخائفة مشدودة الى الوراء لا تملك شفافية الرؤية وانما ضبابيتها.. بين مسارين متضادين يثار غبار كثيف يحجب الرؤية أحيانا الى درجة القتام والاظلام.. تتناطح فيه ومن خلاله ادوات وارادات التغيير بأخري مضادة لا يلبث مداد اقلامها أن يجف.. ولا تلبث سحائب غبارها ان تحجب ما حولها.. لا تلبث ان تتسارع كي تتصارع من جديد في موقف آخر.. وفي وقفة اخرى لها نفس النفس.. والحساسية، والشراسة، وحدة المواجهة.. والتاريخ بكل ما يعنيه ويشير اليه من تناقضات حادة.. ومن قبول ورفض.. من عملية ابداع الى درجة التنوير والتطوير.. ومن ابتداع هو في صياغته بدعة ميتة الى درجة الشد السلبي.. هذا التاريخ لم يسمح ابدا لعجلته ان تتوقف رغم كل عوامل التعتيم. ومواقف التشكيك.. ومحاولات الوأد لمسيرته وحركته.. ليس جديدا على اية مرحلة من مراحله المتلاحقة ان تكون مسالكه ممهدة لا تشقى بها اقدام السعي.. ولا تصطدم بها طموحات الإقدام.. ولا تتصارع في فلكها فضاءات الأقلام.. الذين يبصرون اليوم غير اولئك الذين أبصروا الامس ووقفوا عند حده الزمني.. والذين يستشرفون الغد غير اولئك الذين يبصرون اليوم وحده مكتفين من حصاد يومهم برصيد لا تشفع له طموحات متجددة تتكسر امامها كل عقابيل ومعوقات النقلة التاريخية الحتمية. علمنا صوت الحياة الفاعل ان لا نفزع حين نصطدم بالاشياء لحظة محاولة جادة موصلة الى الهدف.. وان لا نستسلم لحظة فشل حين لا نقدر الوصول الى محطة متقدمة بالسرعة التي نتوخاها ونتمناها.. ذلك ان عمر الحياة وسجلها اعطى لنا من خلال التجربة الواعية زخما من الدروس والعظات نتسلح به في معركة البناء الانساني. واعطى لنا ايضا بنفس القدر حصيلة من الفهم الذي يؤكد لنا ان مجرى الحياة اشبه بالموج العارم.. يتحرك معه وفي مساره وفي مصيره اولئك الذين يمتلكون بصيرة الرؤية وبعدها بحيث تظل مراكبهم ومواكبهم بعيدة عن صرعة الغرق. قريبة الوصول الى الشاطئ المفضي الى الحياة والنجاة.. ويظل الموقف الثاني المضاد لحركة التاريخ ولمتغيراته الحتمية اسير الموجة وضحيتها مهما كانت المحاولات صدامية وانتحارية.. رافضة المد التاريخي والمتغيرات الحضارية.. لن يكون الانسان بعيدا عن فرضيات الامس، وافتراضات اليوم، او الغد كي يدرك الى اي مدى تصل اذرع التاريخ الطويلة إليه مقتلعة كل الرواسب والطحالب العالقة بمجراه.. ذلك ان نهر الحياة او بحر الحياة الكبير الذي يندفع لري العقول، واخصاب التربة الذهنية وقتل ظمئها يأبى الا ان يكون ماؤه ريا نقيا بسلم الورود الى التفتح في معانقة ابدية لضوء الشمس. وضياء الحقيقة.. وكبريائها.. @ التاريخ من حيث هو سجل ضخم، تأبى معطياته الا ان تكون مشرقة الصفحات نابضة السطور.. ناطقة المعاني.. والا فانها بافتقادها خصائص الصنع تتحول الى رصد مأساوي تتداعى معه وله كل الصفحات متحولة الى صفعات قاتلة قابلة للهزيمة.. حين يكون الانسان انسانا بوجوده مستأنسا لذلك التواجد فان عليه ان يتخطى عتبات التردد، ويتجاوز نقاط الضعف، داخل ذاته وحركاته. وان يتمرد على كل عوامل الانكفاء الذهني والحسي، وان يصوغ نفسه ضمن اطار حركته نحو الافضل والامثل.. ان يقيم من جسارته وجدارته جسرا يوصل بينه وبين آفاق استشرافه نحو الغد دون عقد او جمود.. او تراجع.. ان ابصار الاشياء من خلال منظار مستقبلي شفاف مطلب حتمي كي لا يتجاوزه الزمن.. او يرفضه ويلفظه.. والعقدة الصارخة ان تتجرد النفس من ثقة الاقتدار في تعبيرها عما تؤمن به.. ان تتخلى عن مسلك موصل الى طموحات ترى التاريخ حركة علمية عملية متوازنة بين الاخذ والعطاء.. القفز عبر النتوءات قد يدمي الأقدام الا انه دون شك من خلال الحركة التاريخية المتجددة يجسد حتمية التجاوز الى ما هو افضل. وامثل.. اذ لا نجاح دون ضريبة.. ولا سعي دون تحمل.. وحتى لا تنكفئ الاقدام وتتآكل المقدرات مستطرقة في انتظارها فانها مطالبة بالتحرك على جادة المستقبل تحركا حضاريا عقلانيا يستوعب حاجات اليوم، وضرورات الغد ومستلزماته دون افراغ للمحصلة، واستفراغ للحصيلة.. ان حركة النشوء في البنية التاريخية تتدرج في نموها ونمائها.. تكبر. وبالقدر الذي تتسع فيه دائرتها تبدد آفاق الطرح لمضامين الاحتياج المستقبلي اكبر الحاحا. واكثر مدعاة للوثوب والقفز واختراق الاسلاك الشائكة. لن يضير الحي ابدا ان يكون صوتا مسموعا في عالم يستغرقه الصمت مادام ذلك الصوت وعاء تطوير لا تدمير.. وما دام ذلك الصوت دعاء بناء لا دعاء هدم.. ان الابداع في قاموس التاريخ يعني ايداع الحقائق والوقائع مضامينها الحية.. يعني ايضا القفزة المحسوبة المحسومة والمدروسة وصولا الى يقين الحركة، وارساء ثوابتها.. ولن يكون الابداع بدعة حتى جاءت منطلقاته من وحي الضرورة المعيشة للانسان.. ذلك انه ارتقاء بالحس البشري نحو الافضل.. وتظل البدعة قائمة كغيمة غائمة اذا ما تعدى الطرح حدوده المنضبطة.. واذا ما شطح عن مسلك البناء للعقل، والجمال، والحب، والحياة.. الابداع محور إيجاد وتجديد للواقع بكل جوانبه،، علمية جاءت أم، عملية.. ولن يكون للبدعة مكانها خارج هذا الاطار.. النهج الحتمي للتقدم تجاوز قصور النظرة الى ما هو ارحب.. واحب الى العقل.. ان خلايا التاريخ تتجدد.. وجسد التاريخ يأبى الا ان يكون نسيج كيانه جديدا. حديدي العنصر والمادة حتى لا يتحول الى طعم رخيص تطاله انياب الجمود.. والتداعي، والردة الى الوراء.. التاريخ وعاء رصد لا مكان فيه لغير المبدعين الذين يضيفون.. ويستضيفون.. ولكن دون ادعاء..