أدى جموع من المصلين صلاة الجمعة في جنبات وأروقة المسجد الحرام وسط اكتمال كافة الخدمات استعداداً لموسم رمضان المبارك 1438ه، التي أعدتها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي لاستقبالهم، وتوفير كافة الخدمات وتهيئة الأجواء الروحانية الكفيلة بأدائهم لعباداتهم في راحة وطمأنينة، وذلك بالتعاون مع الجهات الحكومية ذات العلاقة. وقد خطب الجمعة إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم مستهلا خطبته بقوله بوصاية الناس قائلاً: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله فاتقوه حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى قال تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب). وأضاف فضيلته إن رحى الأيام تدور حثيثة بحرها وبردها وأفراحها وأتراحها لا يمضي منها موسم إلا أتبعه موسم آخر بما أودع الله في العام من نفحات في ساعات مباركة وليال عظيمة وأيام فاضلة وأشهر حرم وشهر مبارك قد آذن الله بفتح أبوابه وفرد صحائفه فيلج الناس سوقه العامرة بالخيرات والبركات ليربح فيه من اغتنم ويخسر فيه من فرط، نعم عباد الله لقد أظلكم شهر مبارك فلا تضيعوه، سيفد إليكم كالضيف فأحسنوا وفادته واستحضروا بقلوبكم هيبته وحرمته وعظمته. وأردف الشريم إن شهر رمضان موسم تمتحن فيه أفئدة المكلفين من حيث استحضارهم عظمة الشهر وحرمته وأنه موسم للإخبات لا الصخب والإقبال لا الإدبار والتصفية لا الكدر نعم إنه شهر يدع المرء فيه طعامه وشرابه وشهوته استجابة لأمر ربه أثمة لبيب بعد ذلكم يستعمل هذا الشهر في ما يسخط خالقه من لهو وعبث وهتك لحرمة الشهر المبارك قال سبحانه جل في علاه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) إن لهذا الشهر المبارك عظما وجمالا وبهاء ظاهرا جليا في ما يلتزمه المسلمون من تلاوة لهذا الكتاب المبين المنزل في هذا الشهر العظيم ليكون هدى للناس وحجة دامغة تفرق بين الحق والباطل ما يؤكد أنه يجب على أمة الإسلام ألا يكون بينها وبين كتاب ربها وحشة ولا هجران، في تلاوته وتدبره والعمل به فإن أمة تقرأ ولا تتدبر إنما هي كالأقماع. وإن أمة تقرأ و وتتدبر ثم لا تعمل لهي كالأمة المغضوب عليها، وإن أمة تعمل دون أن تقرأ وتتدبر لهي كالأمة الضالة كيف لا والله جل وعلا قد قال في كتابه: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). أيها المسلمون: لقد غلبت على الناس مفاهيم معكوسة تجاه شهر رمضان فمع أنه شهر الجد إلا أن فئات ما فهموه شهرا للدعة والكسل وهو شهر الصوم والاقلال لكن أقواما فهموه شهر التفنن في الموائد والمآكل، هو شهر الترفع عن السفاسف والتفرغ للقرآن والصلاة غير أن لهازم غافلين لاهين فهموه شهرا للأحاجي والمسلسلات والسمر بما يعارض عظمة الشهر المكانية والزمانية وقد قال الصادق المصدوق بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه: "من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ".رواه البخاري وغيره. فلا إله إلا الله ما أمثر الذين يواقعون الجهل والزور في شهر الخيرات والبركات ضاربين بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم عرض الحائط ليكون حظهم من صيامهم الجوع والعطش ومن قيامهم التعب والسهر. وأشار فضيلته ألا إن شهر رمضان ميدان سباق لكنه سريع التقضي فالأوقات فيه تنتهب وما يفوت منه فبالكسل وما يغتنم منه فبالجد وإن تعب المحصل فيه راحة في العاقبة وراحة المقصر فيه تعب في العاقبة وشهر رمضان إنما يراد ليعمر لا ليعبر حتى لا يأسف أحدنا على فقدان ما وجوده أصلح له فيكون أسفه عقوبة له على تفريطه وانشغاله في هذا الشهر بمطعمه ومشربه ولهوه على حساب طاعة ربه والمرابحة في سوق الصائمين. ولقد صدق ابن الجوزي حين قال متحدثا عن زمنه "لقد اشتد الغلاء ببغداد، فكان كلما جاء الشعير زاد السعر، وتدافع الناس على اشتراء الطعام، فاغتبط من يستعد كل سنة يزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول الناس إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه. وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان، وبان ذُل نفوس كانت عزيزة، فقلت: يا نفس، خذي من هذه الحال إشارة، ليُغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة" انتهى كلامه رحمه الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض دعائه: "واقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط". فاللهم لا تجعلنا من المضيعين ولا المفرطين. ألا ما أحوج الأمة المسلمة عباد الله وهي تستقبل هذا الشهر المبارك أن تقف وقفة محاسبة صادقة تعاتب فيه نفسها وتسألها إلى متى الران والغفلة وإلى متى اللهث وراء الدنيا وإلى متى القسوة بسبب معافسة المال والبنين والأهلين ، فإن لم يكن شهر رمضان شهر تخلية من شوائب الملهيات فلن يكون للنفوس تجلية للمكرمات ، وإن لم يكن شهر رمضان شهر إقبال فهو إلى الإدبار أقرب قال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). واستهل فضيلته الخطبة الثانية قائلاً: فإن من أعظم ما يقوم به المرء في هذا الشهر المبارك بعد الإخلاص هو التأسيَ بهديه صلى الله عليه وسلم كمّا وكيفا في ذكره وصلاته وقنوته وقراءته انه لا ينبغي أن يكون شهر رمضان كغيره من الشهور فلا الصدقة فيه كما هي في غيره ولا طول القيام فيه كما هو في غيره ولا الجود فيه كالجود في غيره ولا القراءة فيه كالقراءة في غيره ألا والله وتالله وبالله لا عذر لأحد في رمضان إن لم يظفر فيه بباب القيام فليظفر بباب الصدقة فإن لم يستطع فبباب التلاوة فإن لم يستطع فبباب الذكر فإن لم يستطع فلا أقل من أن يكف لسانه وجوارحه عن ما يخدش هذا الشهر ويثلمه ثم إنه والله وتالله وبالله ما أضيع من ضيعه ووالله وتالله وبالله ما أخسر من خسره ألا ذلك هو الخسران المبين. ويختتم فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم خطبته قائلاً: ثم اعلموا يا رعاكم الله أن خلق الرحمة والتراحم من خير ما يلوح في أجواء الشهر المبارك . حيث يرهف الطبع وتجم النفس ليحمل الصائم في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه ليبذل ذو اليسار مما آتاه الله فيطعم هذا ويكسوا ذاك ليقتحم العقبة التي قال الله عنها: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة). ألا رحم الله امرءا قدر الله حق قدره فطيب كلامه وحفظ صيامه وأخلص إطعامه وصلى فأحسن صلاته مشرئبا إلى وعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى والناس نيام" رواه أحمد والترمذي.