ألقى إمام وخطيب المسجد الحرام معالي فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد،خطبتي العيد موصياً المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن وكلمةِ الحق في الغضب والرضا ، والقصدِ في الفقر والغنى والعدل في العدو والصديق ، والرضا عن الله في الشدة والرخاء. وبين فضيلته أن كل نعيم دون الجنة حقير ، وكل بلاء دون النار عافية ، ومن أبصر عيب نفسه شُغل عن عيوب غيره ، ومن رضي بقَسْم الله لم يحزن على ما فات ، ومن سل سيف البغى قتل به ، ومن حفر لأخيه حفرة وقع فيها . وقال : معاشر المسلمين عيدكم مبارك ، وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات هنيئاً لكم ما صمتم وما أفطرتم وهنيئاً لكم ما أكلتم وما لبستم ، وهنيئا لكم ما أنفقتم وما تصدقتم ، وهنيئا لكم ما فرحتم وما ابتهجتم شعاركم التكبير ، والتسبيح ، والتهليل ( وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . ودعا فضيلته في خطبته إلى حمد الله على بلوغ ختام شهر رمضان سائلا الله قبول صيامه وقيامه . وأشار الشيخ بن حميد إلى أن أَجُل ما يقوِّم الإنسان في هذه الحياة وتظهر به شخصيته وعبقريته وأمانته المسؤولية ، وعلى قدر منازل الناس وكفاءتهم تكون مسؤولياتهم انها مسؤوليات وأمانات تكبر وتصغر ، وتتنوع وتتوزع ، وتدق وتجل وقوام المسؤولية ركنان عظيمان :القوة والأمانة :( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) أما القوة : فهي القدرة على القيام بما يكلف به المرء من مهمات بما يجمع الكفاءة العلمية والخبرة العملية وهي قدرات وإمكانات تختلف وتتنوع حسب ملكات الناس وقدراتهم وحسب تنوع الوظائف والمهمات من الأعمال الميدانية ، والمكتبية ، والنظرية ، والعملية ، والحرفية وغيرها ، وكل وظيفة لها من القوة ما يناسبها . وأكد فضيلته أن من القوة قوة الإرادة ، وهي تهيؤ القلب بعزم للعمل من أجل تحقيق المراد ، مع صمود وثبات يقابل به الصعوبات ومن أعظم مظاهر قوة الإرادة نهي النفس عن الهوى ، والجدُّ في الأمور ، والتزام الأنظمة ، والتعليمات ، والمبادرة بالأعمال ، قبل حلول الموانع والصوارف من الكبر ، والمرض ، وتكاثر المسؤوليات وجميع ملكات الإنسان وقواه توقظها وتحركها الإرادة ، فمهارة الصانع ، وعقل المفكر ، وذكاء العامل ، والشعور بالواجب ، وقوة البدن ، كل هذه لا أثر لها في حياة الإنسان مالم تدفعها قوة الإرادة ، فتتحول إلى عمل منتج مثمر وقوة الإرادة هي – بإذن الله وعونه – سر النجاح في الحياة ، وهي عنوان عظماء الرجال الذين إذا توجهوا إلى شيء هان أمامهم كل عسير ، وسلكوا في تحقيقه كل سبيل . وبين إمام وخطيب المسجد الحرام ، أن الأمانة هي الركن الثاني من أركان المسؤولية : فهي خلق في النفس ، يدفع بالإنسان إلى القيام بما عليه من حق . ويَعِفُّ عما ليس له به حق وهي من أخص أخلاق الأنبياء عليهم السلام ، وكل نبي يقول لقومه : ( إني لكم رسول أمين ) ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الأمناء ، وأمين من في السماء والأمانة في الإسلام مرتبطة بالإيمان ، فلا إيمان لمن لا أمانة له ، فهي تملي على صاحبها سلوكا ثابتا لا يتبدل في كل ما يعهد إليه القيام به ، وما يلتزم به ، ويتحمل مسؤوليته ، وهي تتعلق بكل مسؤوليات الحياة صغيرها وكبيرها : " كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " فضياع الأمانة من علامات انتهاء الحياة وخراب الدنيا ، مما يدل على فساد المجتمع واضطراب الأحوال ، واختلال موازينه والوظائف والأعمال الخاصة والعامة بدرجاتها ، كلُّها أمانات تحت يد من استؤمن عليها. وقال : إن حياة الإنسان كلُّها في هذه الدنيا مجموعةٌ من الأمانات والمسؤوليات صغيرة كانت أو كبيرة ، مسؤول عن المحافظة عليها والقيام بها على وجهها ، ومحاسب على التقصير فيها أو الجناية عليها أو الخيانة فيها ومن الأمانة أن يحرص المسؤول على توظيف مؤهلاته وقدراته العلمية والعملية والفكرية والجسدية في العمل فيما أسند إليه و أْتمُن عليه ، بحسب قدرته وحسب حاجة العمل والوظيفة ومن ذلك المحافظة على وقت العمل وعدم صرف أي جزء منه في غير مهمات العمل ، والبعد عن صرفه في أموره الخاصة ، في استقبالات ، أو مهاتفات ، فهذا وأمثاله نوع من التفريط في المسؤولية ، والخيانة ، وقلة الأمانة . وبين فضيلته أن من أهم ما يطلب في المسؤولية : تقوى الله عز وجل ، ومراقبته ، والتزام الصدق ، والعدل ، والعفة ، والرفق ، والتواضع ، والرحمة ، والتحمل ، والصفح ، وحسنُ التعامل ، وسعة الأفق ، وحب الناصحين، والترفعُ عن الملق والنفاق ، وقبولُ النقد .والبعدُ عن سماع الإطراء ، والمديحِ والاغترارِ به ، وإنجازُ الأعمال ، وإعطاءُ مواعيدُ صادقةٍ ثابتة ، والبعدُ عن التسويف ، وتأخيرِ ما لا يستحق التأخير ، والحذرُ من الرشوة ، والاختلاس من الأموال العامة أو الخاصة وتجنب معيقات العمل ، والقاعدة الجامعة في ذلك : الا يرضي الناس بسخط الله ، ولكن يتودد لهم ، ويحسن إليهم في حدود الحق ، ورضا الله عز وجل ، والقاعدة الأخرى عامل من تحت مسؤوليتك كما تحب أن يعاملوك . وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد أن مما يعين على القيام بالمسؤولية تجنب التخاذل و التخذيل وكثرة الاعتذارات ، وسلوك مسالك الإحباط ، وتهوين الأمور ، وعدم أخذها بجد وعزم ، والاشتغال بما لا يعني ، والمبالغة في التجمل ، ووسائل الترف ، وكثرة التلاوم ، والتشكي ، والملل ، وعدم المبالاة مبينا إن نجاح المرء يتبين في قدرته على تحمل المسؤولية ، إن رجل المسؤولية وواحدها هو من يتوقف عن لوم الآخرين ، واختلاق الأعذار ، والمناصب لا تعطي امتيازات ولكنها تعطي مسؤوليات ومن خيانة المسؤولية أن يطلب الوظيفة من ليس أهلا لها ، أو أن توضع في غير أهلها . وأكد أن هناك ارتباط وثيق بين الشعور بالمسؤولية وعلو الهمة ، فمن صغرت همته ضعفت نفسه ، وقصر أمله ، واستكثر اليسير ، ورضي بصغائر الأمور ودناياها ، ولا ينال المنى إلا من هجر اللذات ، ولا يعض أصابع الندم إلا من أكب على اللذات والأمم لا تقوم الا على ذوي العزائم من الرجال ، وأصحابِ الهمم العالية ويضم إلى علو الهمة في المسؤولية الشعور بالمسؤولية المشتركة فالذين يلقون التبعية عن كواهلهم ويحملون القيادات السياسية الإدارية والمالية وغيرها التبعية كلها أصحاب نظر ناقص ، ورؤية قاصرة ، وهم إلى الفشل ينحدرون . وقال فضيلته : إن على كلٍ مسؤوليته حسب موقعه وتخصصه ، من بلاغ ، ونصح ومشاورة ، ناهيكم بما يباشره من عمل مهما صغر ، فيجب أن يقوم به على وجهه وتمامه حسب ترتيبه وموقعه من المسؤولية ، من رئيس ونائب ومساعد ووكيل ومَنْ دونهم إلى أصغر مسؤول وموظف ، فكلٌ على ثغر ، مسؤوليته أن يحميه ، ويحفظه ، ويقوم به على وجهه . وبين أن من المسؤولية مسؤولية المتبوع عن التابع فالمتبوع عليه مسؤوليتان : مسؤولية عمله ، ومسؤولية من تبعه ، وعمل الأعمال بسببه ، بأمره أو نهيه ، أو إغرائه أو تهديده . مع بقاء مسؤولية التابع على نفسه ، وقد سماهم القرآن الكريم : ( مستضعفين ) واستضعافهم لم يعفهم من المسؤولية ( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) وفي يوم القيامة يتبرأ الشيطان من الجميع : (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) . ونبّه الشيخ بن حميد إلى التفريق بين الشعور بالمسؤولية والنقد الهادم غير البناء ، فمما يلاحظ على هذه الفئة الناقدة ارتفاعُ روح النقد عندها ، والحديثُ المستفيض عن السلبيات ، من غير أن يصاحب ذلك شعور حقيقي بالمسؤولية تجاه القضايا التي يثيرها هذا الناقد ، ينتقد كل شيء ، ولا يعمل أي شيء ، وقد يؤتى بسطة في المعرفة ، والتفكير ، والبيان ، وطول النفس ، لكنه لا يريد أن يعمل ولا أن يتحمل مسؤولية المبادرة .ومسؤولية مباشرة الأعمال ، وطرح البدائل العملية المدروسة ، أو بذل الجهد المطلوب في دراستها ، بل قد ينتقد أوضاعا هو شريك في صنعها بطريق مباشر أو غير مباشر ، بل قد يكون هو الذي بالغ وأفاض في اللوم والنقد ، حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه إن مثل هذا النقد غير البناء مؤشر على العجز والسلبية ، والفشل ، وعدم المسؤولية ، وقد يبتلى هذا الناقد بمسؤولية ، فإذا هو أعجز الناس عن إصلاح ما كان ينتقده ، أو الإتيان بالبديل النافع . وقال فضيلته : في عصرنا الحاضر عصر الإعلام والتواصل والفضائيات والأرضيات كم عظمت التبعات والمسؤوليات ، يتكلم الرجل بالكلمة ، أو المقالة ، أو الصورة ، فتبلغ الأفاق ، ويتأثر بها من يتأثر إيجابا أو سلبا ، كل هؤلاء يتحملون تبعاتهم ، إنك لن تعمل عملا من خير أو شر ، أو تقول مقالة في رضوان الله أو سخطه فتبلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب فيستحسنها ممن يستحسنها ، ويحاكيها من يحاكيها ، ويرددوها من يرددها ، وينشرها من ينشرها إلا وكان لك أجرها ، أو عليك وزرها إلى يوم القيامة ، ولن تضع لبنة في منشأة بَرَّة أو فاجرة فيجيء من يتابعك إلا وكان لك أو عليك جزاء ما قلت أو فعلت ، وجزاء ما قال الناس من بعدك أو فعلوا إلى يوم القيامة ، فاختر لنفسك – حفظك الله – وانج بنفسك – رعاك الله – ، وفي الحديث : " ليس من نفس تقتل ظلما إلا وكان على ابن آدم الأولِ كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " فيا ويل للداعشيين ، و يا ويل من وراء الداعشيين : أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) بل لقد قرر بعض أهل العلم ان هذا من الآثار الذي قال الله فيه : (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فهذه الآثار كلها من المسؤوليات ، فما بالكم بمن غش أو خدع أو زيف أو اخترع اختراعاً مدمرا ، فهذا كله مما يحاسب عليه له أجره وعليه وزره كلما تكرر نفعه أو ضرره .