قد يكونُ العنوانُ لافتًا إلى حدٍّ ما، وغريبًا إلى ما لا حدود! إذا لم تكن مريضًا فأنت سعيد، وإذا لم تكن سجينًا فأنت أسعدُ السعداء! أيها الباحثون عن السعادةِ بين دَرَكِ الشقاء، لن يكون كلامي جديدًا عليكم، بقدر ما يكون تذكيرًا بكنز موجودٍ وهو مفقود، ومفقودٍ وهو موجود، ألا وهو الحرية. حُقّ للحريةِ أن تسمَّى الحياةُ، وحُقّ للحياةِ أن تسمى الحرية، فكلاهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ هي راحةُ البالِ المحلاةُ بالكرامة، الموشّاة بالعزة. لك أن تنظرَ إلى بلبلٍ حبسْته في قفصٍ ضيق – وكثيرًا ما نفعلها – متجاهلين ماذا يعني له الفضاء وماذا تعني له الحرية! لك أن تلحظَ نقراتهِ المتوترة، وقفزاتهِ الضيقةِ العجولة غيرِ الموزونة، لك أن تلحظَ اختلافَ تغريدهِ عن تغريد غيره الطليق! هو يغرد لكن بلا طرب، تغريدُه أشبه ما يكون بصرخات استغاثة وصيحات اعتراض، لكننا نأبى أن نفهمها إلا تغريدًا! لك أن تلاحظَ أيضًا تغريده في غير وقت التغريد، وسكوته في وقتٍ كلّ البلابل تغرد، فقد تُفاجأ بصوته يشق صمتَ منزلك في وسط الليل، وقد تأتي عليه صباحًا وهو قابعٌ بحُزن في زاويةٍ من زوايا القفص، وستأتي عليه يومًا لتجدَه ميتًا بسبب إهمالٍ منك، ولا تسأل نفْسَك حينها: لماذا يا ترى مات؟! فإنّ سؤالك حينها سيكون باردًا لا حياة فيه، وباهتًا لا لون له! لأنك تعلم لماذا مات، وما الذي قتله! إنه فقد أغلى ما يملك، وهي الحرية والفضاء الذي خُلق لأجله، وحوصرَ في حيّز ضيّق، ضاقت معه أنفاسه شيئًا فشيئًا، ففضّل أن يلفظها بعيدًا خارج حدودِ القفص، لتنوب عن الجسد المسجون، وتلهو في عالم علويٍّ حُرٍّ، خارج الدنيا كلها! ولله درّ الشاعر الأبيّ: عمر أبو ريشة حين صوّر لنا هذا المشهد تصويرًا تدمع له العينُ فقال واصفًا ذلك: طوى المنى نوحًا ولكنّما لم يُغنِهِ النوحُ ولم يُجْدِه فعاف دنياهُ ولم يتخذ عُشّا ولَمْ يحمل سوى زُهْدهِ كأنه مِن طولِ ما مضّهُ مِن عَبَثِ الدهرِ ومِن كيدهِ أبى عليه الكبْر أن يورث الأف راخ ذُلَّ القيدِ مِن بَعدهِ! فكأنه لم يمُت رفضًا ونقمةً على القيد فحسب، بل رفضًا أن يورث الذل والقيد مَن يأتي بعده منسلاً مِن سلالته! إنها الحريةُ يا سادة، التي عندما يفقدها الكريمُ فهو ذليلٌ، وعندما يفقدها الغنيُّ فهو فقيرٌ، وعندما يفقدها المثقفُ فهو طبلٌ جاهل، وعندما يفقدها الصحيحُ فهو سقيمٌ، وعندما يفقدها الطفلُ فهو كهلُ شائخ، وعندما يفقدها المواطنُ فهو غريبٌ في وطنه، بل عندما يفقدها الحيُّ فهو ميتٌ محسوبٌ على عمرهِ عالة! يرى السجينُ ما لا يراه غيرهُ، ويشعرُ بما لا يشعرون، ويفقدُ ما لا يفقدون، وهو قابعٌ خلْف قضبان سجنه، يتذكّر تفاصيلَ حياته خارج القضبان، ويحنُّ لكل لحظةٍ كانت خارجه، حتى لو كانت مرضًا أو فقرًا، جوعًا أو شبعًا، سعادةً أو تعاسة، يتذكر كل شيء، ولا تعنيه المتناقضات بقدر ما تعنيه أنها كانت وكانها وهو طليق! يحنُّ لكل مكان زارهُ، ويندمُ على كل مكانٍ لم يزرهُ، ويتمنى لو زاره قبل أن يُسجن! يشهقُ فرحًا بخيوطِ الشمسِ المتدليةِ عبر نافذة ضيقة لا تسمح هي الأخرى بالنفس فضلاً عن الهروب! يفزّ فرحًا عندما يسمع كلمةَ (زائر) إن كان ممن يُسمح له بالزوار، وتشرقُ في عينيه ابتساماتٍ يائسة، إلا أنه يراها ضرورية للقاء مَن جاء زائرًا! تلهو بأعصابهِ أصوات وقْع أقدام الحراس، وتدمي قلبه قهقهاتهم، وترعبه أصواتُ مفاتيحهم، ويرتعد خشيةَ التنكيلِ والتعذيب! بات لا يميّز بين تغريدِ الطيور المنبعث ببُخْل من نافذة معلقة فوق رأسه الأشعث، وبين صلصلة مفاتيحِ السجّانِ المتسربة عبر الممراتِ الموحشة! ينام في غير وقتِ النوم ويصحو وفي نيته النومُ، ليمضيَ ما أمكنَ من الوقتِ غائبًا عن وجودٍ مؤلمٍ وعالمٍ محزنٍ ورتابةٍ قاتلة، وتفاصيلَ أخرى لا نعلمها! تتفجّر في قلبه صرخاتٌ مدويةٌ لا تُسمع، وتتفجّرُ في عينيه دموعٌ تصلحُ أن تكونَ حبرًا للمحابر، وينطلق لسانه بأحكَم الحِكم وأوجع العِبارات وأشدّها وقعًا على النفْس، يصلُح ما يلفظه تحت شدة وطء السجن أن يكون عناوين تدوَّن تحته أبلغ الرسائل والمقالات! فلا تستهينوا بما يلفظهُ المساجين، بل خذوا الحِكمَ مِن أفواههم! بعد هذا أيها الأحبة هل تشكّون في قيمة ما تملكون مِن ثروة؟! أم هل تقلّلون من قيمة كونكم طُلقاء؟! إنها تاج على رؤوسكم أيها الطلقاء، لا يراه إلا المساجين مِن خلف قضبانهم! أيها الأعزاء، وإن كان لا سِجن يعدل سجنَ القضبانِ ولا سجينَ يمثل سجينها، أما وقد سلمْتَ منه وكنتَ خارجه فلعمر الله إنك مِن أسعد السعداء،ِ فلا تصنع لنفسك سجنًا بيديك. ولا تسجن نفْسك بنفْسك خلف قضبان أخرى! لا تسجنها خلف قضبان العادات البالية، ولا التقاليد الخاطئة، ولا الفقر، ولا الجهل، ولا المرض، حتى لو مرِض جسدُك فلا تَمرض روحُك.! فطالما أنت حرٌّ تتنفسُ خارجَ القضبانِ، بعيدًا عن سياط التعذيب، فأنتَ قادرٌ على إسعادِ نفسكَ، قادرٌ على مقاومةِ مرضكَ، ومحاربةِ فقرك، ولقاءِ أحبابك، والاستمتاع بعطاءِ الله تعالى في الطبيعة، من شمسٍ وهواءٍ دون حدود. وإن كنت في شكٍّ من هذا فخذْ موعدًا لتقابلَ فيه سجينًا وتأكّدْ من ذلك بنفسك! وأنا أعِدك أن أتراجع عن قناعتي، إذا لم تعد لنا حاملاً، ولو حكمةً واحدةً، مِن أفواهِ المساجين! هدى عبدالله الزهراني