لم تكن تدري يومًا أن حُلمَها الذي قبضَتْ عليه بكلتا يديها، سيتبخَّر، ويصبح سرابًا، وأنّ غدر الزمان سيلقي بها فجأةً من مقعد الجامعة، إلى قارعة الطريق ورصيف الضياع، مكتوفةَ اليدينِ، مكبلةً بالروتين، تحبطها قلوب قاسية، لا تعرف إلى الرحمة طريقًا. والسبب خارج عن إرادتها؛ لقد أبصرت نور الدنيا لتجد نفسها من هؤلاء الذين يُطلق عليهم «البدون». فتلك جريمتها الكبرى التي فقدت بسببها حلمَ الحصول على بكالوريوس طب الأسنان. معقول.. ما يحدث..؟! بعد قضاء عامين بالكلية وتحقيقها معدل أكثر من 4.50 من 5، يقولون لها: كفى، فأنت لست سعودية، وليس لك مكان هنا، وإن أردتِ الاستمرار فعليك بدفع كلّ المصروفات والتكاليف؟! جنّ جنون الفتاة.. غسلت صدمتَها بدموعِ الصبر.. ولكن ماذا تفعل وإلى أين المصير؟ فوالدها مسنٌّ عاجز ومعاق، ولا يملك من حطام الدنيا سوى الستر. وظل السؤال يطاردها؛ هل بهذه السهولة يضيع سهر الليالي.. بجرَّة قلم؟ ولهذه الدرجة يبقى مستقبل فتاة معلقًا بتوقيع مسؤول من هنا أو هناك، أو بقرار يلغي قرار وزير أو رئيس جامعة سابق. قالت الفتاة ل«الوئام»: «ما ذنب أبناء وبنات «البدون»، لقد اجتهدتُ في الثانوية العامة، وحصلت على معدل مرتفع، وكان كل حلمي أن أخدم هذا الوطن الجميل الذي احتضنني، صغيرة، وبقي على عهده معي حتى تجاوزتُ عقبة الثانوية بتفوّق، ولكن للأسف ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد تمزَّق حلمي، وتفتت أملي فوق صخرة «البدون»، تلك الكلمة التي حطمت مستقبل العشرات، بل المئات مثلي ممن كانوا يحلمون بمستقبل أفضل في بلاد الحرمين». ومضت الفتاة تبوح بحزنها ل«الوئام»، قائلة: «طرقتُ كل الأبواب، ولم أترك جامعة إلا وقدَّمت لها أوراقي، وكان الردّ واحدًا: (أنت سعودية ولا تحملين الهوية التي تؤهِّلك قانونًا للالتحاق بأي جامعة). قلتُ لهم أنا سعودية قلبًا وقالبًا، وكل قطرة في دمي تحمل حبًّا وانتماءً وولاءً لهذا البلد وقيادته الرشيدة، فلماذا تحرمونني من شرف الانتماء لترابه؟! ولكن باءت كل محاولاتي بالفشل». تصمت «بنت البدون»، ثم تعود بصوت كسير لا يخلو من مسحة كآبة غطَّت كل كلمات الأنين، وتقول: يسألونني عن الهوية، وهي تسكن في دمي، ولو نطقت كل شراييني، لقالت أنا سعودية شحمًا ولحمًا ودمًا، أما الأوراق فهي مجرد إثبات حالة أو نقطة نظام، فأمي هي المملكة العربية السعودية، التي ولدت فوق أرضها، وترعرعتُ وسط رمالها، وأكلت من خيراتها، ومستعدّة لأن أفعل أي شيء في سبيل أن أنال شرف الانتماء لها، وتمهر أوراق بياناتي بخاتمها الرسمي، «فنفسي عن جد أن أرد الجميل لهذا البلد». وتمضي الفتاة الحائرة: «لم أستسلم للعقبات، ولجأتُ إلى الصندوق الخيري، ودرست في جامعة أهلية (تخصص إدارة أعمال)، وبعد سنة من دراستي اعتذروا عن قبولي في الصندوق الخيري بحجة أنني لستُ سعودية، وذهبت سنة من عمري وتعبي هباء». لم أحزن أو أيأس، وطرقت باب وزارة التربية والتعليم العالي، وتحدثت بشكل رسمي مع الوزير السابق الدكتور خالد العنقري وتجاوب معي، ووجهني إلى كلية خاصة بالرياض ودرست في تخصص طب الأسنان الذي لطالما حلمت به. ولكن للأسف، بعد إعفائه من الوزارة، وبعد دراسة سنتين كانت المفاجأة التي قتَلَتْ أحلى أمل في حياتي؛ فقد استدعاني مدير الكليات التي أدرس فيها ورفض إكمال دراستي بحجة أن الوزير تم إعفاؤه وكان يفترض أن تكوني على منحة داخلية، وطلب مني دفع مصاريف الكلية، وهو يعلم أنني لا أستطيع، فوالدي معاق ولا يعمل، وأنا أكبر إخوتي، وكل آمالهم معلقة بتخرُّجي، فأنا وهم ليس لنا بعد الله من سندٍ سوى هذه الشهادة التي أحلم بالحصول عليها من كلية الطب. وكانت النتيجة أنني تحولت إلى عاطلة (لا طالت يدي بلح الشام ولا عنب اليمن) كما يقولون، وكلي أمل ورجاء في أن يستجيب لصرختي الوزير الإنسان الدكتور عزام الدخيل، ويصل صوتي إلى قلبه الرحيم، ويعيدني إلى الكلية لإكمال دراستي وتحقيق حلمي وأمل أسرتي البسيطة، في أن أكون طبيبة أعوِّض أهلي عمّا عاشوه من معاناة، وأن أخطوَ نحو المستقبل بشهادة جامعية أفتخر بأنها صادرة من جامعة أو كلية تنتمي إلى هذا الوطن. وقبل أن تنهي صرختها قالت فتاة «البدون»: «عندي أمل كبير، وأشعر الآن بقرب انفراج كربتي، وأذكِّر الجميع بأن من سلك طريقا يلتمس به علمًا سهَّل الله به دخولَ الجنة، فما بالك بأجر من فتح هذا الطريق لعائلة بأكملها؟!». رابط الخبر بصحيفة الوئام: فتاة «البدون» تناشد «الدخيل» تحقيق حلم الطب