احتلت القنوات الشعبية حيِّزاً لا يُستهان به من الفضاء الافتراضي المفتوح مُستهدفة نشر الثقافة الشعبية ولكنها نحت – للأسف الشديد – باتجاه المفهوم السلبي في التعاطي ؛ مما يعني أن ثمة وجود فراغ في منظومة الإعلام الشعبي المتخصص يُنذر بحدوث كارثة لهذا النوع من الثقافة التي يخدش ماضيها ، ويشوه حاضرها ، ويُغيِّر في ملامح مستقبلها ، الأمر الذي يتطلب متابعتها ، ودراسة طرق التحكم فيها بشكل إيجابي يتخذ من المعالجة الموضوعية منهجاً في توجيه مسارها من معاول هدم إلى عوامل بناء . حاولت القنوات الشعبية إعادة إنتاج الموروث وللأسف فشلت ؛ لأنها لا تمتلك الرؤية الواضحة التي من خلالها يمكن أن توظف هذا الموروث في خدمة الثقافة بمدلولها الشامل ، ناهيك عن عدم امتلاك القائمين على إدارتها للمهارات اللازمة لهكذا مهمة ، بينما توقف دورها عند اجترار هذا الموروث بشكل لم يخدم الثقافة الشعبية بقدر ما أساء لها ، وشوَّه الصورة الجميلة المطبوعة في الذهنية المجتمعية . يُمثِّل تمركز الثقافة الشعبية حول إبراز الموروث الشعري – دون غيره – خللاً في الدور المأمول الذي يجب أن تقوم به ، والأدهى والأمّر أنه وُظف في استنطاق العنصرية والعصبية على مدى أربع وعشرين ساعة يومياً ، بحيث نُصبح على وجبة.. حنا.. وأنتم.. ونُمسي على وجبة.. كنا.. وكنتم ، مع اتحافنا بين هاتين الوجبتين السامجتين ببث يستمر ساعات يُنصَّب فيها فلان من الناس شيخاً على قبيلته ، أو استقبال قبيلة لأخرى في مباهاة لا تعكس وجهاً حضارياً لوطننا ، بقدر ما تُرسِّخ وعياً جمعياً متدنياً ، والمؤلم أن أغلب من يتبنى مثل هذه الممارسات المحسوبين على المتعلمين . إن اختزال الكم الهائل من تنوع موروث الثقافة الشعبية المتميز في جانب الشعر ، وإهمال الجوانب المضيئة الأخرى مثل : الحكايات والسِير والملاحم والأساطير والحِكم والأمثال ، وعدم تسليط الضوء عليها ؛ لهو ابتسار لحقيقة ومكنون هذا النمط من جهة ، ودليل على وقوع المشتغلين بالثقافة الشعبية في خطأ مهني من الدرجة الأولى من جهة أخرى ، أفرزه الرغبة المتعاظمة في الكسب المادي على حساب تضاؤل الدور الوطني المنشود لهذا الخطاب الثقافي الذي فقد بريقه وتحوَّل من موروث يستنطق قِيَم الماضي إلى استثمار بشع لهذه القيم . لقد أدى تنامي الثقافة الشعبية في مجتمعنا – وفقاً للطريقة التي تنتهجها القنوات الشعبية – إلى تراجع مُخيف لنمط الثقافة النخبوية ، وعدم قدرتها على مجاراة هذا السيل الهادر من الغثاء الذي امتطى صهوة التقنية بوسائلها التفاعلية ليس لخلل في الثقافة النخبوية بل يعود ذلك إلى أن القنوات الشعبية خاطبت الجميع بلغة الشارع واستطاعت أن تُسوِّق لنفسها بعيداً كل البعد عن أن ما تقوم به رسالة تخدم المجتمع ككل وتُعيد نشر هذا النمط الثقافي على وجه التحديد ، مما يتطلب رسم استراتيجية وطنية لمواجهة هذا العبث الذي إذا لم يُحجَّم ويوضع في سياقه الطبيعي وإلا فسيكون نذير شؤم وقنبلة موقوتة تهدد مقدرات الوطن ومكتسباته الفكرية التي تشكلَّت إبان غياب مثل هذا النوع من الإعلام الموبوء . د . محمد الثبيتي [email protected] رابط الخبر بصحيفة الوئام: عبث القنوات الشعبية