بعد نجاح الثورة المصرية في الإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك وإجراء الانتخابات التشريعية، تحوَّل الاهتمام الأكبر حالياً، بالإضافة إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، نحو صياغة الدستور الذي سيشكل في المستقبل حجر الأساس والركيزة الأهم التي توجه الحياة الدستورية في مصر وتحميها من الوقوع في براثن الدكتاتورية مرة أخرى. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للأبحاث في مارس الحالي تقريراً كتبته مارينا أوتواي حول الجهات التي ستشارك في صياغة الدستور المصري الجديد. يقول تقرير كارنيجي إن تشكيل الجمعية التأسيسية، أو هيئة صياغة الدستور المُنتَخَبة من غرفتَيْ البرلمان، أصبح محطَّ جدل في الأسابيع الماضية نظراً لغياب قواعد واضحة يستند إليها البرلمان في تشكيلها. فالإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في مارس 2011، ينص فقط على أن غرفتَيْ البرلمان الجديد تنتخبان معاً اللجنة المكلّفة بصياغة الدستور والمؤلّفة من 100 عضو. كما أنه تم التخلي عن محاولة قام بها المجلس الأعلى، في نوفمبر 2011، لتحديد تشكيلة اللجنة الدستورية، المُضمَّنة في وثيقة حول المبادئ فوق الدستورية، وذلك في خضم التظاهرات التي تلت اقتراح المبادئ. ويضيف تقرير كارنيجي أنه من الناحية القانونية الصرفة، فإن غرفتَيْ البرلمان هما مَن تختاران تشكيلة الجمعية التأسيسية، لكن من الناحية السياسية، تعارض الأحزاب العلمانية معارضة شديدة السماح للبرلمان بممارسة السلطة الممنوحة له في الإعلان الدستوري. لقد كان أداء الأحزاب العلمانية والمستقلين ضعيفاً في الانتخابات، إذ حصل هؤلاء مجتمعين على أقل من 25% من المقاعد. وبالتالي هم يطالبون بأن تتألف الجمعية التأسيسية بشكل أساس من ممثّلين عن منظمات من خارج البرلمان، على غرار المؤسسات الدينية والجامعات والنقابات المهنية، التي يعتبرون أنها تمثّل الشعب المصري أفضل مما يمثله البرلمان المُنتخَب. للقوى السياسية في مصر توجّهات ثلاثة رئيسة في ما يتعلّق بتشكيلة الجمعية التأسيسية: • حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين يعتبر أن 40 عضواً من الجمعية يجب أن يكونوا أعضاء في البرلمان، وأنه يجب اختيار هذه المناصب من الأحزاب نسبةً إلى حصّتها في مقاعد البرلمان. ويقترح أن ينتخب البرلمان 30 ممثلاً إضافياً، على ألا يصبحوا أعضاء في الجمعية. أما الأعضاء الثلاثون المتبقّون، فيتم اختيارهم مباشرة من قِبل الرابطات المهنية، والجامعات، والشرطة، والقوات المسلحة، والدبلوماسيين المصريين، والقضاء، والنقابات المهنية، واتحادات العمال، والأزهر، والكنيسة القبطية. لكن لا يزال غير معروف ما هو عدد الممثلين الذين ستحظى بهم كلّ مؤسسة من المؤسسات المختلفة، وكيف سيتم اختيارهم. • حزب النور السلفي يحث هو أيضاً على اضطلاع البرلمان بدور كبير في صياغة الدستور. ويؤكّد الحزب على أن للغالبية الحق في صياغة الدستور، دون أن يقدّم تفاصيل عمّا يعنيه ذلك في الممارسة العملية. كما يعتبر أن الدستور يجب أن يؤكّد على هوية مصر الإسلامية والدور المركزي للشريعة الإسلامية. • الأحزاب والشخصيات العلمانية، التي لا تملك إلا 25% من المقاعد في مجلس الشعب و15% من المقاعد في مجلس الشورى، تسعى بطبيعة الحال إلى الحدّ من دور أعضاء البرلمان في الجمعية التأسيسية، مشدّدة عوضاً عن ذلك على دور الرابطات المهنية، والقضاء، واتحادات العمال، وغيرها. أما أكثر اقتراح توفيقي تم طرحه، فجاء من النائب الليبرالي المستقلّ عمرو حمزاوي، ومصطفى النجار من حزب العدل، اللذين اعتبرا أن الجمعية التأسيسية يجب أن تضم 35 نائباً يتم اختيارهم من الأحزاب استناداً إلى ثقلهم الانتخابي، و65 عضواً من مجموعات من خارج البرلمان. وبموجب هذا الاقتراح، يكون لحزب الحرية والعدالة 15 ممثلاً في الجمعية التأسيسية، وحزب النور 7 ممثّلين، وحزب الوفد 3 ممثّلين. ويكون لكلِ من أحزاب المصري الديموقراطي الاجتماعي، والمصريين الأحرار، والبناء والتنمية، والوسط، والإصلاح والتنمية، ممثّل واحد، بينما يكون المستقلّون ممثّلين بعضوَين اثنين. كما اقترح حمزاوي أن يحظى الأقباط ب10 مقاعد إلى 100 مقعد في الجمعية التأسيسية، وهو مطلب الناشطين الأقباط أيضاً، وأن تكون النساء ممثّلات بشكل عادل. وقد حدّت اقتراحات أخرى من وجود النواب في الجمعية التأسيسية أكثر. فحزب الجبهة الديموقراطية، الذي لم يَفُز بأي مقعد في البرلمان، يرغب في أن يكون البرلمان ممثَّلاً ب30 عضواً فقط، في حين أن حزب المصريين الأحرار الليبرالي وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي يطالبان بأن يكون 20 عضواً فقط من الأعضاء المئة من البرلمان، على أن يُنتَخَب الأعضاء الثمانون الباقون من مجموعات من خارج البرلمان. ويذهب رئيس الحزب الناصري، سامح عاشور، إلى أبعد من ذلك مقترحاً ألا يتمّ اختيار معظم أعضاء الجمعية التأسيسية مباشرةً من قبل البرلمان، وذلك للحيلولة دون احتكار حزب واحد عمليةَ صياغة الدستور. أما الاقتراح الأكثر تطرّفاً، الذي يدعو إلى اختيار أعضاء اللجنة الدستورية كافة من خارج البرلمان، فقدّمه شريف زهران وماريان ملاك، نائبان معيَّنان من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعضو في حزب التجمّع. وهذا الاقتراح هو في الواقع شبيه جداً بالاقتراح الوارد في وثيقة السلمي لعام 2011، ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان هذان النائبان عُيِّنا للحثّ على تطبيق هذه الفكرة. إن الاقتراحات العلمانية هي أساساً أشكال مختلفة للمضمون نفسه، وهو أن البرلمان المُنتخَب يجب أن يكون له دور محدود للغاية في صياغة الدستور، وقدرة محدودة جداً على انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية. كما أن هذه الاقتراحات كلها تتجاهل الإعلان الدستوري الذي يشكّل دستوراً موقَّتاً لمصر، ينص بوضوح على أن البرلمان هو مَن ينتخِب أعضاء الجمعية التأسيسية. ويعكس الجدل القائم الآن حول تشكيلة الجمعية التأسيسية إلى حدّ كبير الجدالات القائمة منذ إطاحة مبارك. فقد سعت القوى العلمانية منذ البداية إلى ضمان عدم صياغة الدستور من قِبل هيئة مُنتخَبة، أو الحرص على ألا يكون على الأقل واضعو الدستور مقيَّدين في خياراتهم باتّفاقٍ على مجموعة مقبولة من المبادئ فوق الدستورية. وكان هذا الجدل، الذي لم يُحسَم، قد استعر في صيف عام 2011، قبل أن يخفت لفترة من الزمن ثم يعود ويستعر في نوفمبر بعد أن أعلنت الحكومة المُعيَّنة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة وثيقة السلمي، التي تضمّنت توجيهات مفصّلة عن تشكيل الجمعية التأسيسية. هذه الوثيقة نصّت على أن يختار البرلمان من خارجه 80 عضواً من أعضاء الجمعية المئة، بحيث يمثّلون شرائح المجتمع المصري كافة، فيشملون 15 ممثلاً عن الهيئات القضائية، و15 ممثلاً عن أساتذة الجامعات، و15 ممثلاً عن النقابات المهنية، و5 ممثّلين عن اتحادات العمال، و5 ممثّلين عن منظمات المزارعين، و5 ممثّلين عن المنظمات غير الحكومية، وممثّلاً واحداً عن كلٍ من غرفة التجارة، واتحاد الصناعات، ورابطات الأعمال، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والقوات المسلحة، والشرطة، والاتحادات الرياضية، واتحاد طلاب الجامعات، والأزهر، والكنائس المصرية، ومجلس الوزراء. وعلى كلٍ من هذه المجموعات من خارج البرلمان أن يسمّي ضعف عدد الأعضاء الذي يجب أن تختارهم مجموعاتهم، للسماح للبرلمان باختيار ممثّلين من بينهم. ويتم اختيار الأعضاء العشرين المتبقّين من بين الممثّلين عن الأحزاب والمستقلّين، وفقاً لنسبة الأصوات التي تم الحصول عليها في الانتخابات النيابية. وهكذا، في ظل استمرار الجدل حول تشكيلة الجمعية التأسيسية، ونظراً إلى أن الجدل حول مضمون الدستور لم يبدأ بعد، فمن غير المحتمل البتة أن يُحرَز أي تقدّم سريع نحو سنّ دستور جديد. وعلى الأرجح، ستُجرى الانتخابات الرئاسية، المقرر تنظيمها في 23 و24 مايو، قبل أن يُصاغ الدستور الجديد وتتم الموافقة عليه من البرلمان أولاً، ثم من خلال استفتاء شعبي. من المحتمل بالتالي، بعد أن يُنتخَب الرئيس لولاية مدّتها خمس سنوات، أن تُعدَّل صلاحياته بموجب دستور جديد، فيتم الحدّ منها على الأرجح، الأمر الذي سيولد أزمة جديدة.