مع مرور عام على الانتفاضة السورية، وصلت مستويات الموت والدمار إلى درجات مرتفعة. رغم ذلك، فإن اللاعبين الخارجيين – سواء كانوا من حلفاء النظام أو من خصومه – لا يزالون متمسكين بسلوك يخاطر بمفاقمة وضع مرعب أصلا. الاستقطاب الدولي المتزايد يُعطي النظام فضاء سياسيا للمحافظة على مقاربة – وهي خليط من إصلاحات محدودة وتصعيد للقمع – محكوم عليها بالفشل على المدى البعيد؛ ويضمن العسكرة الكاملة للمعارضة، مما يمكن أن يُفضي إلى حرب أهلية شاملة؛ ويرفع الرهانات على حرب إقليمية بالوكالة يمكن أن تتسبب في اشتعال خطير للأحداث. وقد نشرت "مجموعة الأزمات الدولية" في مارس الحالي تقريرا عن مهمة كمبعوث خاص للأمم المتحدة والجامعة العربية، كوفي عنان، وفرص نجاحه في إيجاد حل تفاوضي للأزمة في سورية. ويؤكد تقرير مجموعة الأزمات الدولية أن على روسية والآخرين أن يفهموا أنه ما لم يتم، بسرعة، إحياء مسار سياسي يحظى بالمصداقية، فإن المسار العسكري المتصاعد وحده الذي سيبقى، مع تداعيات خطيرة على الجميع. يكمن أمل عنان الوحيد في الحصول على الدعم الدولي، وخصوصاً الدعم الروسي لخطة تحقق ما يلي: • تتضمن انتقالا مبكرا للسلطة يحافظ على سلامة المؤسسات الرئيسية للدولة. • تضمن إعادة هيكلة تدريجية لكن شاملة للأجهزة الأمنية. • تؤسس لعملية انتقالية للنظام القضائي والمصالحة الوطنية تطمئن مجموعات كبيرة من السوريين الذين يرعبهم الاحتمال المزدوج للتغيير المصحوب بالاضطرابات وتسوية الحسابات عن طريق العنف. لا شك في أن مثل هذا المقترح سيتعرض للانتقاد من قبل النظام والمعارضة على حد سواء، لكنه سيلقى ترحيبا من قبل العديد من السوريين الذين يتوقون لبديل للخيارين الوحيدين المطروحين حاليا والمتمثلين إما في المحافظة على الأسرة الحاكمة بأي ثمن أو الإطاحة بالنظام مهما كانت التبعات. الطريق المسدود أمام النظام حتى لو استطاع النظام البقاء لبعض الوقت، فقد أصبح من المستحيل عمليا رؤية كيف بوسعه الانتصار في النهاية أو استعادة الحياة الطبيعية في البلاد. قد لا يسقط النظام، لكنه سيصبح ظلا لنفسه، مجموعة من الميليشيات تقاتل في حرب أهلية. اليوم، لا يزال النظام يتمتع بتفوق عسكري كبير على المعارضة وقد نجح إلى حد كبير سواء في احتواء الاحتجاجات السلمية أو في مقاومة الجماعات المسلحة. إلا أنه لم يتمكن من تحقيق تقدم مستدام في أي مكان من البلاد. إن سلوكه على الأرض – بما في ذلك الاستعمال المفرط للقوة من قبل الجيش النظامي، والسلوك الطائفي للأجهزة الأمنية، واللجوء المستمر إلى العملاء المدنيين، والمعاملة الرهيبة للمعتقلين والعقاب غير التمييزي لشرائح كاملة من السكان – ينفي حتى أبسط أشكال السلوك الطبيعي. سياسيا، عبأ النظام قاعدته الشعبية التي تضيق باستمرار رغم أنها لا تزال كبيرة؛ وفاقم واستغل مخاوف الأقلية العلوية؛ لكنه أحجم عن التواصل الجدي الذي يمكن أن يجتذب أعدادا متزايدة من السوريين. ومن وجهة المعارضة، فإن الحوار الذي يقترحه النظام سيكون عقيما مصمما لشرعنة إصلاحاته الأحادية والمحدودة المعدّة منذ وقت طويل. وقد شكل الاستفتاء على الدستور في 26 فبراير مثالا على ذلك فقد لامس القضايا الأقل أهمية، مثل مكانة حزب البعث، وتجاهل المسائل الأكثر أهمية مثل البنية الطائفية للأجهزة الأمنية وطبيعة القيادة في البلد. أصوات دولية غير متناغمة في مواجهة أعداد القتلى المتزايدة والمأزق السياسي، فإن اللاعبين الخارجيين كانوا غير فعّالين في أحسن الأحوال، وصبوا الزيت على النار في أسوأها. لقد اختار العديد من هؤلاء اللاعبين النظر إلى الأزمة بشكل أساسي من منظور الرهانات الاستراتيجية الإقليمية، ولم يفعلوا شيئا للدفع باحتمالات التوصل إلى عملية انتقالية متفاوض عليها. حلفاء النظام – إيران وحزب الله – قدموا في معظم الأحيان دعمهم غير المشروط له، مشددين على أن النظام ضحية مؤامرة، وهم يستمرون في الإغداق على النظام بدعمهم السياسي والمادي دون أن يستعملوا نفوذهم الكبير للضغط على دمشق لتغيير مسارها. وفي المقابل فإن الدول التي تسعى للإطاحة بالنظام من شأنها أن تزيد من حدة الاستقطاب داخل المجتمع السوري وأن تخيف بعض مكوناته الرئيسية. وترحب البلدان الغربية بسقوط النظام لكنها مترددة وغير متأكدة من كيفية القيام بذلك، خصوصا فيما يتعلق بالولايات المتحدة، القلقة من تبعات التغيير في سورية. بشكل عام، لجأ هؤلاء إلى مزيج من الغضب والعقوبات المتصاعدة. تدّعي روسيا الحياد، إلا أن أفعالها تُكذِّب مزاعمها. في 4 فبراير، استعملت الفيتو ضد قرار مجلس الأمن قدمته الجامعة العربية ودعمه الغرب لإدانة العنف وإقرار مقترح المجموعة الإقليمية لانتقال سياسي. وكان لموسكو العديد من الأسباب – خصوصا أنها لا تزال تفكِّر بالسابقة الليبية؛ كما أنها تعارض نزعة التدخل التي يبديها الغرب؛ وتخشى عدم الاستقرار الإقليمي؛ وتقلق من تحقيق الإسلاميين للمكاسب في حديقتها الخلفية. وبصرف النظر عن هذه التبريرات، فإن ما أخفقت روسية في فعله هو تقديم مبادرة بديلة قابلة للحياة خاصة بها. إن الأثر الإجمالي لهذا التنافر في الرؤى الدولية كان إقناع القيادة السورية بأنها ليست بحاجة لتغيير شيء. فقد مكّن هذا القيادة من الاستمرار في إنكارها، متناسية فيما يبدو عمق الأزمة التي هي غير قادرة أو مستعدة لحلها. طرح المسؤولون والمحللون الغربيون المحبطون جراء الافتقار إلى خيار سياسي قابل للحياة ، طرحوا سلسلة من الأفكار غير الناضجة غالبا، من اقتراح إطلاق هجمات عسكرية مباشرة مرورا بتأسيس مناطق آمنة، إلى الممرات الإنسانية أو ما يُسمى المناطق الخالية من القتل. كل هذه الأفكار تتطلب شكلا من أشكال التدخل العسكري الخارجي من قبل أعداء النظام وهو ما سيكثف على الأرجح انخراط حلفائه. أما اليوم، فإن المقترح الذي يحظى بأكبر قدر من الجدية فهو تسليح المعارضة. لقد قالت دول الخليج بأنها مستعدة لذلك. إلا أن ذلك أيضا يمكن أن يغرق البلاد أكثر فأكثر في حرب أهلية دموية دون احتمال للحل في المستقبل القريب. إضافة إلى ذلك، تشير التقارير إلى أن الأسلحة يمكن تمريرها عبر لبنان، مما سيضمن بالتأكيد انتقال الصراع الأهلي في سورية إلى جارتها أيضا. ثمة العديد من الأصوات في العالم العربي وفي الغرب تدعو إلى إسقاط النظام بصرف النظر عن التبعات. إن هذا لا يمثل وسيلة للمساعدة في التغلب على المخاوف التي يشعر بها الناس داخل سورية وخارجها في ما يتعلق بتداعيات مثل ذلك السيناريو: عدم الاستقرار والدخول في المجهول على المدى البعيد. كل هذا يؤكِّد على ضرورة العمل على عملية انتقالية منظمة ومتفاوض عليها لإشراك جميع هذه المكونات ولمحاولة التعامل مع جملة كبيرة من التحديات في المرحلة ما بعد الانتقالية. الفرصة الضئيلة أمام مهمة عنان ثمة عدد كبير من الأسباب التي تدفع إلى الشك في أن النظام سيقبل بمفاوضات وتنازلات ذات معنى. وإذا كان ذلك سيحدث، فإنه سيحدث فقط إذا اقتنعت القيادة بأن ميزان القوى يميل لغير صالحها. ويمكن نظريا تحقيق ذلك بطريقتين. أولا، يمكن لميزان القوى العسكري أن يتحول بطريقة تفرض على النظام السعي إلى تسوية، أو أن يحدث تحول في التوازن الدولي من خلال اجتذاب روسية إلى مبادرة دبلوماسية حقيقية. وهنا يأتي كوفي عنان: إذا استطاع الأمين العام السابق للأمم المتحدة أن يقنع روسية بدعم خطوة انتقالية، فإن النظام سيواجه الاختيار إما الموافقة على التفاوض بنية طيبة أو مواجهة عزلة شبه تامة بخسارته لحليف رئيسي. إذا عالجت الخطة الانتقالية المقترحة تلك المخاوف ومنحت روسية دورا هاما في ضمان تنفيذها، تصبح مشاركة موسكو فيها ممكنة. يواجه عنان تحديات كبيرة. يبدو النظام مصمما على سحق الحركة الاحتجاجية ويعتبر أي تنازل بمثابة خطوة أولى نحو سقوطه. وبعد أشهر من القمع الوحشي، لا تبدو المعارضة بمزاج تفاوضي. إن الانخراط في حوار مع النظام دون تفويض واضح، ودون إطار محدد للمفاوضات أو دون دعم دولي يمكن أن يغيّر موقف القيادة السورية سيؤدي بالتأكيد إلى استعمال الأسد لزيارات المبعوث الخاص لتقديم نفسه على أنه محاور لا غنى عنه، وإلى إصدار التعهدات الفارغة ومحاولة كسب الوقت. ثمة حاجة لاتخاذ خطوات على الأرض، بما في ذلك منح سورية للمنظمات الإنسانية الدولية إمكانية الوصول الفوري إلى المناطق التي عانت من أسوأ حالات العنف. أما أبعد من ذلك، فإن المبادرة الوحيدة التي يمكن أن تتاح لها فرصة النجاح هي تلك التي تتمتع بأكبر إجماع دولي ممكن، وينبغي أن تضع جملة من المبادئ الملزمة، مع جدول زمني مفصل وتفاصيل يتم تحديدها عن طريق المفاوضات بين الطرفين: • إصلاح الأجهزة الأمنية لضمان أن تصبح جميع القوات المدنية في المحصلة تحت سلطة وزارة الداخلية وجميع القوات العسكرية تحت سلطة وزارة الدفاع، من خلال: • إعادة هيكلة الجيش والشرطة. • إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. • تفكيك شبكات عملاء النظام من المدنيين وجماعات المعارضة المسلحة. • إجراء انتخابات مبكرة للرئاسة ولجمعية تأسيسية تحت إشراف مراقبين دوليين وعرب. • تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، تضم تمثيلا عادلا للمكونات الداخلية والخارجية المختلفة للمعارضة. • حماية المجموعات الأكثر عرضة للعمليات الانتقامية بانتظار تأسيس جهاز قضائي انتقالي. • وضع آليات لعملية مصالحة وطنية ومصالحة محلية بين الأحياء التي مارست عنفا متبادلا. الخلاصة مع مرور كل يوم من العنف المتصاعد وارتفاع حصيلة القتلى، فإن احتمال التوصل إلى حل سياسي يتراجع. إلا أن البديل واضح، وهو بديل بشع. إذا استسلم المجتمع الدولي لذلك القدر، فإن الجميع سيدفعون ثمنا باهظا.