كثفت بعض الجماعات المسلحة من هجماتها مؤخراً على وحدات الجيش اليمني النظامي وسقط عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، خاصة في جنوب اليمن الذي خرج عن سيطرة الحكومة تقريباً وحوِّل إلى ميدان قتال بين الانتحاريين والأسلحة الثقيلة والاغتيالات والخطف. وتأتي أعمال العنف هذه كجزء من التصعيد الذي يحاول تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية أن يفرضه على المنطقة بعد انتخاب الرئيس اليمني الجديد عبد ربه منصور هادي وإعلانه عن تصميمه القضاء على المتطرفين الذين يستغلون الفوضى السياسية والقبلية في البلد. وقد تحول الجنوب إلى بقع خطيرة من القرى والبلدات التي يسيطر عليها المتطرفون، ولم تستطع القوات الحكومية، التي تقاتل ضد قوات انفصالية جيدة التسليح والتدريب أيضاً، من القضاء على شبكات المسلحين المدعومة بمقاتلين أجانب بحسب بعض التقارير. تزايدت هجمات القاعدة بشكل ثابت منذ الصيف الماضي، وبلغت ذروتها في هجوم انتحاري على القصر الجمهوري أدى إلى مقتل 25 من أعضاء الحرس الجمهوري وذلك في نفس اليوم الذي أدى فيه الرئيس الجديد القسم ليحل محل الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وقد أخذ العُنف الذي يمارسه تنظيم القاعدة والجماعات الموالية له شكلاً جديداً في اليمن. ففي شهر فبراير الماضي أدت التجاذبات والانتماءات الحزبية والقبلية إلى صراعات ليس في داخل القبيلة الواحدة فحسب، بل وداخل الأسرة الواحدة أيضاً. فقد قُتل طارق الذهب، وهو أحد زعماء تنظيم القاعدة الذي كان لفترة وجيزة أميراً على مدينة رداع في اليمن، في شهر فبراير على يد أخيه غير الشقيق إثر حادثة تتخطى النزاعات العائليّة. واقع الأمر أن السلطات المحلية مارست ضغوطاً على الأخ غير الشقيق، حزام، كي يتصدّى لتهديد القاعدة في عقر دارها؛ الأمر الذي أدى، كما هو متوقّع، إلى موجة من الانتقام أسفرت في نهاية المطاف عن مقتل حزام. ويقول تقرير كتبه برايان أونيل ونشرته مؤسسة "كارنيجي للسلام الدولي" مؤخراً أنه على الرغم من وحشية ومأسوية هذه الرواية التي تبدو وكأنه قد تخطاها الزمن، تساعد تفاصيلها على تمهيد الطريق لسياسة أميركية حيال تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والأهم من ذلك، حيال اليمن ككل. يقول تقرير كارنيجي إنه لا يمكن القول إن اليمن في "مرحلة" انتقالية، لأن في ذلك انتقاصاً للمراحل الانتقالية الكثيرة التي تمر بها البلاد، أبرزُها انتهاء حُكم علي عبدالله صالح بعد عقد من الزمن. وقد تحقّق هذا التحوّل مع انتخاب الفريق الركن عبد ربه منصور الهادي، نائب الرئيس السابق والرئيس بالإنابة منذ شهر نوفمبر الماضي، رئيساً للبلاد بصورة رسمية مؤخرا.ً ويتحدث التقرير عن السياسة الأميركية الخارجية تجاه اليمن، التي ساهمت في دفع مبادرة مجلس التعاون الخليجي في نوفمبر الماضي والتي تضمنت تنحّي صالح من السلطة مقابل حصوله على الحصانة من الملاحقة القانونية. وقد سارعت الولاياتالمتحدة أيضاً إلى الاعتراف بالرئيس اليمني الجديد عبد ربه هادي خلفاً له، وتباحثت معه بشأن إضفاء شرعية على حُكمه من خلال توجيه مؤشّرات واضحة بالتغيير نحو الإصلاح. لكن على الرغم من أهميّة استثمار الولاياتالمتحدة لهذه اللحظة، إلا أنها أبعد من أن تكون ضمانة للاستقرار، فهذه ليست سوى واحدة من العديد من الثورات داخل اليمن. فأياً تكن هوية الشخص الذي يمسك مقاليد الحُكم في صنعاء، ستكون سلطته محدودة. في الشمال، استغلّ الحوثيون الفوضى التي أحدثتها الثورة لتثبيت سلطتهم، وهم يتصرّفون وكأنهم يديرون منطقة تتمتّع باستقلال ذاتي. أما الجنوب، فهو خليط غير مستقر من الانفصاليين الليبراليين والمقاتلين الإسلاميين، وليس هناك أي تنسيق بينهم. وعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لا يضم في صفوفه كل المقاتلين الإسلاميين، إلا أنه التنظيم الأبرز. ويؤكِّد تقرير كارنيجي أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع أن تتوقّع أو تحاول فرض حكومة مركزية تبسط سلطتها على كامل أراضيها، كما هي محدّدة في الخريطة، فالأراضي اليمنية لم تخضع قط إلى السيطرة المركزية، والمحاولات التي بذلها صالح لتحقيق ذلك في الأعوام العشرين التي تلت التوحيد منيت كلها بالفشل. غالباً ما تأخرت الولاياتالمتحدة في الإدراك بأن لقب "الرئيس" في اليمن لا يضمن السلطة، وبأن سنّ القوانين يختلف عن الاعتراف بها وتطبيقها. يكفي أن نتوقّف مثلاً عند حادثة الهجوم على المدمّرة الأميركية "يو إس إس كول"، فقد طالبت الولاياتالمتحدة بتوقيف الفاعلين. لكن حتى لو كانت لدى صالح الرغبة في القيام بذلك، كان عليه أن يراعي في نهاية المطاف الامتيازات القبلية ويمتنع عن تخطّيها. كانت سلطة صنعاء محدودة للغاية. ومع أن هذه الانقسامات ليست دائمة، إلا أنه لا مجال لقيام دولة مبنيّة على المصالحة في المدى القصير. وقد ينشأ نظام مطابق لنظام صالح، حيث لن يسارع المتمرّدون، سواء في الشمال أم الجنوب، إلى السعي إلى إعادة التوحّد، وذلك نتيجة إراقة الدماء التي لا يمكن محوها بمجرد رحيل صالح. لكن ثمة فرصة جيدة للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار من دون مصالحة، فالحوثيون، الذين هم أكثر تدريباً من الحراك المبتدئة نسبياً ويملكون قيادة أكثر مركزية، يمكن أن يوقّعوا اتفاقاً مع الحكومة اليمنية. غير أنه بعد سنوات من الحرب، لا يمكن أن نتوقّع لا من الحوثيين ولا من الحراك العودة إلى حظيرة الدولة. وربما يجب أن تدرك الولاياتالمتحدة أن محدودية سلطة الحكومة المركزية في اليمن ليست سلبية في المطلق. فعلى النقيض من المخاوف التي يعبّر عنها أكثر من سيناريو يحوّل البلاد إلى صومال ثانية، لن تسود شريعة الغاب في اليمن، بل ستحكمها المفاوضات اللامركزية بين زعماء القبائل والمناطق. ويدعو تقرير كارنيجي الولاياتالمتحدة إلى تشجيع الاستقلال الذاتي في الجنوب وفي مناطق الحوثيين إنما من دون قطع التواصل بين هذه المجموعات وصنعاء، أي الانفصال وليس الطلاق. ولهذه الغاية، يقول التقرير إن على الولاياتالمتحدة أن تبحث عن أصحاب النفوذ الحقيقيين في القبائل والمناطق التي تتمتع باستقلال ذاتي، فهؤلاء هم من يمارسون السلطة الفعلية على تصرّفات الناس، ويحكمون في مناطق لا تصلها الحكومة المركزية. وإذا نأت الولاياتالمتحدة بنفسها عن العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية، وعملت بدلاً من ذلك مع سماسرة السلطة الحقيقيين، فإنها سوف تستطيع تحقيق نجاح مزدوج: فهي من ناحية ستتمكن من مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، كما أنها ستضعف تنظيم القاعدة إلى حد كبير من ناحية ثانية. يقودنا هذا إلى ما تعتبره الولاياتالمتحدة الأولوية الأكثر إلحاحاً في اليمن: القضاء على تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب، الذي يشكّل الفرع الأشد خطورة بين الأذرع الممتدة لتنظيم القاعدة. لكن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بحسب كارنيجي، يجب ألا يكون الأولوية القصوى، حيث إن التركيز الحصري عليه على حساب المسائل الأخرى يعود بنتائج عكس المتوخاة. لكن لحسن الحظ أن الطريق إلى مطاردة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يلتقي مع الطريق إلى مساعدة اليمن بشكل عام. ولا حاجة إلى أن تكون السياسة الأميركية عنيفة لدرجة كبيرة، لكن يجب أن تقرّ بأن السلطة هي في قبضة القبائل المحلية. هؤلاء هم الأشخاص الذين ينبغي على الولاياتالمتحدة الأميركية فتح قنوات اتصال معهم. والقاعدة سبق أن فعلت ذلك عبر تزويج عناصرها من فتيات من القبائل، مما أتاح لها السيطرة على المدن وبناء جيش والاختباء من الطائرات من غير طيار. ففي حالات عدّة، اضطُرت قوات صالح إلى التراجع عن مطاردة عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، على الرغم من الضغوط من الولاياتالمتحدة، وذلك تفادياً للدخول في حرب مع القبائل. وبالتالي، إذا كانت القبائل تؤمّن ملاذاً لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، فالدافع ليس بالضرورة اصطفافاً ايديولوجياً، بل لأن القاعدة تتقيّد بالقوانين المحلية وتعرف كيف تتقرّب من العشائر، فلديهم ما يقدّمونه للقبائل؛ وكذلك فإن لدى الولاياتالمتحدة الأميركية أيضاً ما يمكن أن تقدّمه لها. وعلى الرغم من أن بإمكان القاعدة أن تؤمّن المياه والطعام والأدوية، إنما ليس بالقدر الذي تستطيع الولاياتالمتحدة تأمينه. هذا هو المفتاح لهزيمتهم ومساعدة اليمن. المشكلة الكبرى التي تواجهها البلاد الآن ليست الإرهابيين والمقاتلين الأجانب، فهم لا يشكلون حتى سبباً أساسيّاً في المشاكل السياسية التي تشل البلاد. فالمسائل الرئيسة، على المدى الطويل، هي الجفاف والمجاعة والفقر المستشري والسكان الذين تتسع في أوساطهم الفئة العمرية الشبابية ويتعاظم قنوطهم. لكن المساعدات ليست الحل الوحيد، وهنا يأتي دور التواصل المباشر مع القبائل. يجب ألا يتم توزيع المساعدات من خلال صنعاء، بل عن طريق القادة المحليين، مما يتيح التخلص من الطبقات التي تمر عبرها عملية التوزيع، وقطع الطريق أمام السرقة والفساد. يسمح هذا بتعزيز الثقة بين الأطراف، ويساهم في تقويض تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. في الواقع، لدى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بعض الخبرة في العمل خارج صنعاء، إذ تستهدف العديد من المجموعات الفرعية "الهشّة" في مناطق محددة مثل الجوف، حيث يعتمد التوزيع أكثر على القنوات المحلية. وإذا نأت الولاياتالمتحدة بنفسها عن العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية، وعملت بدلاً من ذلك مع سماسرة السلطة الحقيقيين، فتستطيع تحقيق نجاح مزدوج: ستتمكن من مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، كما أنها ستضعف تنظيم القاعدة إلى حد كبير. يقتضي هذا التكتيك مهارة ومرونة - وكذلك الاستعداد للعمل خارج الإطار الآمن للفاعلين المعتادين والمناصب المطمئِنة - لكنها السياسة الوحيدة التي تملك فرصة حقيقية للنجاح.