بدا لكثير خلال عام 2011 أن واشنطن تعدل تدريجيا من سياساتها على ساحة العالم بهذا القدر أو ذاك. فقد تخلت عن حلفاء قدامى مثل الرئيس المصري السابق حسني مبارك والرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بالإضافة إلى معمر القذافي الذي ربطته في السنوات الأخيرة علاقات وثيقة أيضا بالولاياتالمتحدة بدأت مع تسليم مكونات البرنامج النووي الليبي في صناديقها التي لم يفتح بعضها في الأصل، إلى واشنطن. ثم إن الولاياتالمتحدة سحبت قواتها من العراق وأبدت استعدادها للانسحاب من أفغانستان. بل إن نائب الرئيس جوزيف بايدن نفى أي افتراض بأن واشنطن تنظر إلى طالبان بأنها عدو. إلا أن واشنطن – من حيث الجوهر على الأقل – لم تتغير إذ كان ما تغير حقا هو العالم الذي تعيش فيه وقدرتها على أن تفعل ما دأبت على فعله. فقد كان الفارق الأساس بين إدارتي الرئيس جورج بوش والرئيس باراك أوباما هو فارق في الأسلوب وليس في الأهداف. وقد تزامن صعود أوباما – ربما من سوء طالعه – مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي حدت بدرجة كبيرة من قدرة الولاياتالمتحدة على الحركة حتى بات من المألوف الآن أن تتردد عبارات من قبيل تراجع النفوذ الأميركي وانحسار تأثير واشنطن. فضلا عن ذلك فبينما كان العالم يراقب حلقات مسلسل الأزمة الاقتصادية الأميركية فإن دولا أخرى كانت تواصل الصعود لاسيما في آسيا. وهكذا فقد كان المناخ العالمي وتراجع القدرات الاقتصادية الأميركية وإن بصورة نسبية هما الإطار العام الذي ارتسمت خلاله نجاحات واشنطن وإخفاقاتها خلال 2011. الشرق الأوسط يخضع تعريف النجاح والفشل للطرف الذي يقوم بالتعريف. ففي حالة الفشل الذريع في حل القضية الفلسطينية مثلا على نحو ما وعد به الرئيس، ثم تراجعه ليس فقط عن مواقفه السابقة ولكن عن أي جهد ذي معنى لإنصاف الشعب الفلسطيني أو حتى لدعم مسعاه للحصول على مقعد في الأممالمتحدة لدولة "نظرية"، فإن كل ذلك يعد في نظر الإسرائيليين نجاحا منقطع النظير. غير أن ذلك لا يحول دون صدق ما قاله الرئيس الأميركي في وقت مبكر من أن "التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية هو من صلب المصلحة القومية الأميركية". ومن ثم فإن النظر إلى ما أنجزته إدارة أوباما في هذا الصدد من زاوية نظر المصلحة الوطنية الأميركية ذاتها يضعه دون شك في مصاف الفشل الذريع. فها هي إسرائيل تواصل الاستيطان وها هي غزة محاصرة وها هي الإدارة تلوك العبارات المستهلكة نفسها عن ضرورة العودة لمائدة المفاوضات وضرورة إحياء عملية السلام. العراق وعلى الصعيد العراقي فشل الرئيس أوباما في التوصل إلى اتفاق يقضي بالإبقاء على عدد محدود من الجنود الأميركيين هناك بعد موعد انتهاء اتفاقية وضع القوات في 31 ديسمبر, وبصرف النظر عن المعارضة المبدئية لاحتلال العراق من الأصل إلا أن تلك القوة الصغيرة كانت ضرورية كصمام أمن يحول دون حدوث ما يحدث الآن وما سوف يحدث في المستقبل. وكانت ملامح الفشل قد بدأت في واقع الأمر منذ أزمة تشكيل الحكومة العراقية بعد الانتخابات العامة الأخيرة والفشل الذي يقول بعض إنه كان متعمدا لجوزيف بايدن في الضغط لتشكيل حكومة ائتلافية تضم "العراقية" و"دولة القانون" ومن ثم تضمن إبعاد العراق عن عودة الفتنة الطائفية إلى أرضه ومن ثم تهديد تلك الأرض بالتقسيم. وتردد في واشنطن مرارا أن العراقيين سيطلبون الإبقاء على قدر من القوات. بل إن رايان كروكر سفير واشنطن الأسبق في بغداد ومن وضع نص اتفاقية الفصل بين القوات قال ل"الوطن" في واشنطن عام 2009 إنه "واثق" من أن العراقيين سيفعلون ذلك. ولكن المباحثات التي أدارها بايدن جرى "سلقها" بسرعة لتوضع العراق على مسار يصل إلى ما سبق أن دعا إليه بايدن نفسه في 2006 و2007 من ضرورة تبني الولاياتالمتحدة لصيغة التقسيم الفيدرالي. وما لبث نائب الرئيس أن أزال ما قاله بهذا الشأن من موقعه الإليكتروني فور الإعلان عن اختيار باراك أوباما له مرشحا لمنصب نائب الرئيس. وفي كل الأحوال فإن تقييم ما حدث في العراق سيظل نجاحا كبيرا في نظر بعض كما هو فشل أكبر في نظر آخرين. فالإيرانيون ينظرون إلى سحب القوات الأميركية من العراق باعتباره نجاحا هائلا. وهناك في الولاياتالمتحدة من يرونه فشلا ذريعا بعد حرب استمرت قرابة 8 سنوات وكلفت ما يزيد على تريليون دولار وأدت إلى مقتل 10 آلاف أميركي ما بين جندي ومتعاقد يعمل بالأجر. المحصلة تبدو إذن – ولأسباب مفهومة تماما – كارثية بالنسبة للعراق وبالنسبة للولايات المتحدة. أفغانستان وفي حالة أفغانستان، فقد سقطت سياسة الاحتلال والبقاء التي اعتمدها الرئيس أوباما نفسه بعد أول مراجعة أجراها لاستراتيجية الولاياتالمتحدة هناك في 2009. وكانت تلك الاستراتيجية تقضي بدخول القوات الأميركية إلى منطقة ما و"تطهيرها" من المقاتلين ثم تجنب الانسحاب كما كان يحدث في السابق بل البقاء لإعادة بناء هيكل لإدارة تلك المنطقة بوسعه أن يلبي احتياجات السكان وأن يكسب ودهم ومن ثم يعزل طالبان. وكان واضحا أن استراتيجية الدخول والتطهير ثم المغادرة لم تفلح في السابق. فقد كان مقاتلوا طالبان يغادرون المنطقة طوعا عند دخول الأميركيين إليها قبل أن يتم "تطهيرهم" ثم يعودون إليها بعد انسحاب الأميركيين. ولأن القوات الأميركية لم تكن كافية لتغطية كل أفغانستان في الوقت نفسه فقد قسم جنرالات البنتاجون البلد إلى مناطق. فسمعنا عن حملة الشمال الغربي وحملة جبال كوش وحملة قندهار وحملات أخرى كثيرة. أما النتيجة فكانت أن طالبان ضربت في عمق كابول. إنجاز في معرض الفشل لقد برهنت الاستراتيجيات الأميركية المتعاقبة على أنه ليس بوسعها أن تنقذ سياسة خاطئة من الجذور. والأمر الوحيد المشجع الذي يمكن أن ينسب إلى الإدارة في هذا العام بشأن أفغانستان هو ما أبدته من استعداد للتفاوض مع طالبان واتخاذ إجراءات لبناء الثقة من قبيل إطلاق سراح معتقلي الحركة في جوانتانامو وتمسكها بمطلب وحيد – لا يخالفها فيه أحد – هو إلا تؤوي الحركة منظمات إرهابية وألا يكون لها أي صلة بالقاعدة. وحتى عند النظر إلى ذلك "الإنجاز" باعتباره نجاحا فإنه في ذاته يعني فشل الولاياتالمتحدة في احتلال بلد كأفغانستان لا يملك مقاوموه طائرات "إف – 16" أو صواريخ كروز أو طائرات دون طيار. إن هذا الفشل الذي يشبه فشل احتلال العراق يبرهن مرة أخرى على أن هذا ليس عصر الاحتلال العسكري. لقد ولى زمن تسيير الجيوش على دقات الطبول والنزول على سواحل أفريقيا أو آسيا لإعلانها جزءا من هذه الإمبراطورية أو تلك. إلا أن رحلة واشنطن إلى محطة الانسحاب من أفغانستان كانت بدورها مكلفة في الأرواح والأموال. فالانسحاب من أفغانستان مثيل لا محالة لأنه مناف للمنطق إذ إن الأرض الأفغانية ملك للأفغان وحدهم. وبالإضافة إلى التكاليف الباهظة في الأرواح والأموال فإن واشنطن توشك أيضا أن تخسر حليفا مهما في المنطقة هو باكستان. خسارة باكستان فقد شهد العام الجاري مسلسلا من الأزمات الكبيرة بين باكستانوالولاياتالمتحدة كان يمكن تطويقها وحلها دبلوماسيا. غير أن المزاد السياسي في واشنطن تسرب فيما يبدو إلى الإدارة فأصبحت باكستان هي الحليف القوي للإرهاب وباتت المخابرات العسكرية الباكستانية مصدر كل الشرور. وتوجه مسؤولون أميركيون بهذه الذهنية إلى إسلام أباد طالبين منها أن تتنكر لمصالحها القومية. إذ يتعين عليها أن تترك أنصار الهند وحلفاءها يصعدون على حساب من يقفون عادة إلى جوار إسلام أباد وكأن هناك دولة في العالم ستقبل أن يتسلل خصمها التاريخي ليحكم الطوق حولها. ويحسب لإدارة الرئيس أوباما لاسيما لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون دور في كبح جماح هذا الشطط وتهدئة الحملات التي استهدفت إسلام أباد التي دون تعاونها لكان الحال في جنوب آسيا غير الحال. وبعد هذا "النجاح الكبير" في باكستان الذي فجر مئات المظاهرات ضد التدخل الأميركي وضد غارات الطائرات دون طيار التي أودت من المدنيين بعشرات أضعاف ما أودت من الإرهابيين فإن واشنطن تمكنت أيضا من تحقيق "نجاحات أخرى" من النوع ذاته من قبيل إيجاد حل لقضية البرنامج النووي العسكري الكوري الشمالي وهو بالمناسبة برنامج عسكري لا لبس فيه لتخفف من حدة التوتر في آسيا. كما أنها "نجحت" في حمل بكين على التمسك برفض خفض سعر صرف اليوان. الفشل الداخلي بيد أن الفشل الأكبر لإدارة الرئيس أوباما لا يمكن العثور عليه على ساحة العالم على الرغم من كل ذلك. لقد كان هذا الفشل داخل الولاياتالمتحدة ذاتها. فقد أخفقت الإدارة في حل الأزمة الاقتصادية والمالية على نحو ذريع بحق. وقد يقول البعض إنه من غير الإنصاف مطالبة الرئيس وإدارته بحل الأزمة الاقتصادية لأسبابها الموضوعية المتراكمة. بيد أن السياسة التي انتهجتها الإدارة لم تسفر عن أي تخفيف لوقع الأزمة على محدودي الدخل من الأميركيين وسجل مستوى الفقر في الولاياتالمتحدة أرقاما غير مسبوقة. ولعل هذا على وجه الحصر هو ما يفسر التساؤلات التي تتردد الآن في الولاياتالمتحدة عن قابلية الرئيس لأن يبقى في البيت الأبيض لفترة رئاسة ثانية. لقد تمتع أوباما بمستوى من الشعبية ندر أن حصل عليه رئيس آخر في مطلع رئاسته. إلا أنه يكافح الآن حتى يعاد انتخابه. وليس في ذلك أي غرابة بالنظر إلى سجل الإدارة الحافل "بالنجاحات".