في رواية "الضوء الهارب" للكاتب والناقد محمد برادة، تتساءل إحدى الشخصيّات (هل الذكرى حدثٌ عشناه أم إنها شيءٌ ينقصنا، يعطينا إحساسا بالفقدان فنبتدعه؟ هل الذكرى مشاهد عشناها بالفعل أم إننا نعيشها بالتذكّر عبر ما يخبرنا به الآخرون؟).. هذا القول الذي يشكّك بالذكرى كواقعة تاريخيّة لا ينفي عنها فاعليّتها وأثرها في الوجود على مستوى التشكّل والاستجابة طبقا لها أو على مستوى الثغرة الكيانية في الروح التي تختبر الفقد والرحيل والغياب. كما أنها تشير في انبعاثاتها إلى ضربٍ من مقاومة النسيان ورأْبِ الصّدْع الذي تركه الغياب؛ فباتتْ الذّات موزّعة أو ممزّقة بين هنا وبين هناك.. بين أزمنةٍ تُستعاد وشخصيّات تُسترجع كلّما هبَّ الحنين واستشرستْ العزلة. الشاعر سامر أبو هوّاش في مجموعته الشعريّة السابعة "تخيط ثوبا لتذكر" (منشورات الغاوون، بيروت 2010) يتصفّح ألبوم العائلة ويكتب خمسة نصوص عن الأب عادل والأم عائشة والأخ إسماعيل. الماضي المأهول بصور وأصوات الغائبين يُعاد تحيينه لا كما هو بالحضور الصّلب، وإنما باندراجه فيما هو أبعد من التذكّر، إنما هذا الماضي الشخصي وعلاقاته العائليّة تنحلّ في مركّب جديد ينبئ عنه عنوان الكتاب "تخيط ثوبا لتذكر" بإنشاء جدل بين الخياطة/ الحاضر وبين التذكّر/ الماضي، لا على هيئة بينلوبي وأسطورتها في الانتظار والتأجيل. ما يفعله أبو هوّاش حياكة حياة غربتْ غير أنها تركتْ أثرا ما زال موجودا وفاعلاً ومؤثّرا. هي عمليّة ينطبق عليها مفهوم "الطرس" تلك الكتابة التي نالها المحو، وشُرِع بكتابة فوقها لكن بقي ما يلتمع من الكتابة القديمة فتظل فاعلة ومتعالقة مع الكتابة الجديدة. ثمّة قيافة لا تكتفي بالأثر القديم فقط، بل تسعى إلى إدماجه وإلحاقه بصورة أوسع تخصّ الذات الكاتبة التي ترفع من الذّكرى أو حطامها ما يشكّل بؤرة يلتقي فيها جميع أطراف الصورة. البرهة المنقضية بشخوصها ذابت ولا سبيل لاستعادتها. تحجّرتْ عند لحظتها وأي استعادة هي ما يتطاير من قبضة الزمن منظورا إليه في تحوّل آخر.. الروح التي تسري وتخفى إلا من "أثر بطيء وأسود يمكث عميقا وسر في الجذوع والشرايين". الأثر والسر هما ما يبقيهما في سدّة التحوّل ولهما القدرة على الالتحام بلحظة خاصّة حاضرة تُقتَصُّ من هيولى أو غيوم أو أشباح، فتحلّ في صيرورةٍ تقاوم الزوال وتلتصق بالروح التي تحملها في صيغةٍ تؤذِنُ بحالةٍ مفارقة (شيءٌ يصير شيئا. حصاةٌ تُرمى صدفةً في نهر سرعان ما تصير نَفَساً أو ربما بعد سنةٍ، عشر سنوات أو قرن، تعاود يدٌ التقاطها بالخفّة الهائلة، وبلا أثرٍ لذكرى. شيءٌ يصير شيئا). الوجوه النائية في الغياب، والمحكومة بمنطق الزمن في الحضور والتلاشي.. هشاشة الجسد في الصمود والبقاء وقابليّته للانحلال ليس من صفحة الوجود وحسب، إنما أيضا في أمكنةٍ تشيخ في فعلِ نسيانٍ مضاعف. هاويةٌ تبتلع، وعدمٌ وشيك يختلط فيه الأحياء بالموتى: (تحت السقيفة الخشب/ تولد لهم ملامح/ وأسماء/ يعرفون أنها/ ستمكثُ معهم طويلا/ قبل أن تتقشّر/ من تلقائها).. (الأسماء والوجوه/ تتقشّر أيضا عن الجدران/ كما الحروف/ عن البطاقات القديمة). النّفخُ على جمرة الحين، يوقظ الغائبين، فتنهض أشباحهم تجول في الغرف، تسيل من العماء ومن التبدّد إلى سويّةٍ نضرةٍ مبصرة يلفحُها هبوب الحياة، بعد أنْ خفتَ نورُ حضورهم ونزلتْ صورهم من الجدران وأصبحت خبيئة الأدراج تطويها العتمة واليباس: (الصور في الأدراج/ يبستْ/ حتى يمكن كسرُها/ بنظرةٍ واحدة). من الظلِّ يسحب سامر أبو هوّاش خيوط حكايته عن أفراد الأسرة، ويجدل منها نُتَف السيرة المشبعة بألم الذكرى وألم الاستحضار ليقول فداحة الغياب وأثره الماكث يستعصي على الكشط والتجاوز. كأنما هي حالة أبديّة على النحو الذي قرأناه في قصيدة قصيرة للشاعر الإنجليزي "مرون": (لقد اخترقني غيابك كما يخترق الخيطُ إبرة. فكلّ ما أفعله مطرّزٌ بلونك).