من الصعب جداً أن يفسر الفنان التشكيلي لوحاته لمشاهديها؛ - ولربما كان ذلك مؤامرة على قتلها ذوقياً من وجهة نظر النقاد - بل من الفن أن تترك اللوحة بما تحتويه من انفعالات وإيحاءات تحت تصرف ذائقة المشاهد، ولذا اختار التشكيلي السعودي علي الجشي اللونين الأسود والأبيض ليكونا بارزين في أغلب أعماله الفنية، وغابت الألوان عن معظم لوحاته منذ عام 2007 حتى الآن، ولكنها مغامرة فنية اجتاز الجشي معظم عقباتها. "الوطن" التقت الجشي وسط أقلام عائلته اللونية، ومحابره، والفحم المعتق في السواد الذي خضب به أنامله ذات مساء، فازداد السواد بياضاً في لوحة الوجوه المتعبة والخيول الشاردة, وبين الجشي أن اللون لم يكن غائباً عنه في لوحاته، وفي لحظة ما وجد نفسه تحن للأبيض والأسود، واختار مجال الرسم التشكيلي؛ لأنه مجال يعطيه إحساساً بالدفء وعمق الفكرة؛ ولأن الضوء والظل والملمس البصري "التكنيك" يثير انتباهه ويجعله يتفاعل مع العمل بطريقة غير اعتيادية، فيها الكثير من الغموض والبعد الزمني. هنا ليس لديك خيارات لتجذب الأنظار- كما يقول الجشي - أو توصيل الفكرة؛ لأنك تعيش مع المشكلة فلديك عائلة لونية متجاورة ومحايدة من الأبيض والأسود بين الضوء والظلمة، ويتابع الجشي: "لذا وجدت نفسي ميالاً لهذا المجال، أبحث عن حلول لتوجيه المتذوق بمدلولات العمل من خلال أسس تكوين الصورة من ملمس وإيقاع وتباين وظل ونور؛ ولكي أجعل من العمل ليس تخطيطاً سريعاً ولا مرحلياً خادماً للوحات تصويرية؛ بل مجالا مستقلا يتوازى مع المجالات الفنية الأخرى". والمتأمل في اللوحات التي تضمها مدونة الفنان الجشي يجدها تميل إلى الواقعية ذات الطابع السريالي المثير، والتي تخاطب الإحساس الوجداني والبصري بإيحاءات وعلاقات بين عناصر العمل، وترتبط مع بعضها بين البساطة وعمق التفكير. أما الخيل في لوحاته فلم تكن ك"خيل امرئ القيس المليئة بالكر والفر ولم تحط كجلمود صخر من علٍ"، بل جاءت مطمئنة إلى حد أنها أشبه بالنفس الإنسانية التي ترتبط بما يحيط بها من مؤثرات نفسية واجتماعية وبيئية، ورسمها الفنان الجشي بنظراتها ووقفاتها وحركاتها، وبتعبيراتٍ شبيهةٍ بالحب والصداقة، وأحياناً بالجموح والاستعلاء، ومرات تعج باليأس والتضجر، ويتضح ذلك برسم عناصر مختلفة ترتبط مع الخيل كالأغصان وأوراق الأشجار وقطرات الماء التي تعطي معاني أكثر عمقاً وتحتاج للتفكير والتأمل وربطها بالنفس الإنسانية المتأثرة بما حولها. بينما جاءت الوجوه "البروتريه" في لوحات الجشي على غير العادة، فلم تكن تمثل صورة مطابقة بقدر ما تحمل من ملامح وتجاعيد زمنية في غاية الروعة والجمال، وهو - حسبما روى لنا حكايته مع الوجه - لا يهدف إلى نقل الواقع كما هو، وإنما يبحث عن تعابير تدعو للتأمل في هذا الإنسان الذي خلقه الله (عز وجل) بجماله؛ لأن التكوين والبشرة تتغير بتأثير الزمن، وأحياناً التغيير يسابق الزمن، فالكادح الذي يعمل طوال النهار كالنجار أو الفلاح اللذين تتأثر وجوههما لتعطي تجاعيد ترسم خطوط العمر والإجهاد، فلا نرى أي ملمس ناعم على وجنتيهما أو خديهما أو جفنيهما؛ بل نرى تفاصيل دقيقة تحكي لنا الكثير والكثير فعندما يرسم الوجه الكادح يعيش معه أدق التفاصيل. وفرق الفنان الجشي بين الفن الطبيعي والواقعي؛ فالفنان الطبيعي ينقل الأشياء بمظاهر سطحية عابرة، أما الفنان الواقعي فيسعى إلى نقل الطبيعة مع إبراز انفعاله لمواقف لم تألفها العين، كمظاهر الحزن أو الفرح، كما أن الفنان - من وجهة نظره - يعد فناناً ما دام الجمال مصاحباً لما تنهل منه يداه؛ ليوصل فكرة يعيش ويتفاعل معها الجمهور. ودعا الجشي كل الفنانين المبتدئين - قبل الخوض في التجربة وتقليد كبار الفنانين وخاصة المدارس الحديثة - أن يدرسوا أصول الرسم والتصوير التشكيلي الواقعي، ويتعرفوا على عناصر العمل الفني ويوظفوها في أعمالهم من ظل ولون ومساحة وكتلة وفراغ وتناغم، وكذلك دراسة أسس العمل الفني من وحدة وتكرار وتناسق وانسجام وإيقاع وتباين، وأن يكثروا من التجارب.