غلاف غائم لرجل وطفل بثيابهما العصرية، التقطتْهما الكاميرا ليس في لحظة ثبات، أياد مفرودة وأقدام تقتلع الخطوات صُعَداً في الشارع. أدارا ظهرهما للكاميرا. وجود ضبابيّ؛ ملابس عصريّة ليست هي الزّي السائد في البلاد، حركة منطلقة في شارع، وجوه لها ما تنظر إليها غير العدسة. ثمّ اسم المؤلّف الذي نعرفه خارج الكتاب يعتلي الغلاف، ينحسر عن اسم العائلة بحذف أل التعريف. جملةٌ من الإشارات يضعها عادل ال "حوشان" على سطح روايته "مساء يصعد الدرج" الصادرة عن طوى للثقافة والنشر والإعلام، 2010 نقرأ فيها خروجاً عن الكتلة وعن المجموع، وعن الأماكن المغلقة المتحصّنة بالأسرار وبالكتمان وتغذّي ساكنيها بقيم الثبات والمراوحة. لا معدّي لنا من استبطان الغلاف ونحن نصعد ونتلولب في متن الرواية؛ نحاول أن يتوضّح هذا الغائم الضبابي. في نهاية الفصل الأول، القصير، وفضاؤه المفتوح على الخارج في الشارع. تنتاب الراوي وهو في سيارته غشيةٌ يذهب معها الوعي ويرتجّ المشهد وتختلط الصّور ويحضر الابن الصغير الغائب؛ فُرجته إلى وعلى الحياة "كنتُ أشعرُ بأصابعه تمدّ لي الياسمين وتتحرّك بالقرب من فمي بينما السماء واسعة وتتساقط منها أوراقٌ موسميّة وأصوات الغرباء".هذا الحدّ من استشعار وشيكِ المغادرة بخلفيّة جنائزيّة، يضطرم ويفور لاستعادة الأوراق المطويّة من حياته الملفوفة فيما يسميه في الفصل الموالي ب "حقيبة أخطاء". تلك السطور المدوّنة لاحتضان الغياب واكتناه الاضطراب الجوّاني لوجودٍ هشٍّ؛ يترسّمه في علاقة أبويّة منفتحة على الحياة وعلى ضجيجها. يصِلُنا النّزيز المُقطّر عن حياةٍ لم تكتمل موسومةٍ بنقصان يفرضُهُ المكان وتقاطع الدروب لتجارب في العيش لم تلتئم مع المحيط ولم تنسجم مع "العام". الفرديّ.. الشخصي.. يبدو ناتئاً غريباً في حياةٍ غريبة "تغلق علينا أبوابَها الحديديّة وتطوي هواجسنا بالملل والمرض المعنوي من فقدان هويّة الفرد حتى أصبحنا مجتمعا يحكّ أصابعه بحثاً عن تفاصيل ضائعة ورتوش يجمّل فيها وجهه أمام المرآة". الوجود الخاص المنهوب يريد أن ينتصب؛ تشعل الذاكرةُ كيانَه الغافي في الأوراق الحاضرة كمدوّنة موازية للحكايات المقطوفة من الأفلام والموسيقى والتلفزيون والكتب والمطاعم والفنادق والأسفار. فيها حياة يغمرُها الشّغب والتحوّل كما يثغرها الانكسار. ثمّة قطعٌ يتردّد؛ فواصل مردومة بالغموض عن علاقات برسم الزوغان. لا تستقر. أزمةٌ فاعلة وصداها يشرخ الجميع؛ بالمرض؛ بالهجرة؛ عوارض لثابت يتغلغل فيه الراوي، ليس بحثاً عن سبب. يفكّك عزلةً ما برحت تتفاقم وتأخذه بعيداً، ينتفض بالقلق وبالاستيهام. هل خربت حياته تماما؟.. هل توقفتْ عن الفعل؟.. هل هي ما تبقّى من الهشيم بعد أن غادر الابن وبعد أن طوت عنه شجرة الياسيمن أغضانَها واستنبت لها جذوراً في تربةٍ أخرى؛ فصوّحتْهُ شمسُ غيابها؟.. جناحاه اللذان خبرا بهما بهجة الحياة وممارستها كما يشتهي وفي نطاقٍ من التفاهم، والاتكاء على القيم ذاتها التي تجمعهم وفي نفس الوقت تشطرهم عن محيطهم؛ هي ما جعلت الجناحان ينفرط ريشهما ويحاولان أن يجدا بقعةً أخرى تستوعبهما. وهذا هو الصّدع الذي تهاوَى إليه. جذوره أقوى من التزحزح والاقتلاع. لا يستطيع أن ينسجم أو يتناغم؛ فيعمد إلى اجتراح عالمه الخاص ينأى به عن القبضة الصارمة؛ يتمرأى في الانفصال عن المشهد العام واللواذ بشقّته وأشيائه الصغيرة، وعلبِ الذكريات يحفن منها ما يستقيم به عودُ أيامه. يسعى إلى تظهير أوراقه لعلّ شيئاً يتوضّح فيعين. وربما هنا نلمس سرّ التدوين في أصعب الظروف؛ تسجيل التجربة لوجودٍ مقصوف في غرفة مغلقة "على جسدٍ يحمله الآن طائران لا شكل لهما سوى النهايات". هل كان الراوي يريد أن يودِعَ وصيّةً عبر أوراقه؟.. أم أن المسألة أبعد من ذلك. كان يهدف إلى أن يبصر حياته في مهبٍّ يتطاول ولا يمكنه أن يصمد له؛ يتركُهُ مُشعّثاً "في نفقٍ من الكآبة" يمتلئ ويحاصره ويفسد كل شيءٍ. وليس غريباً أن يعادِلَ هذا الفساد الذي ضربه ب "سرطان الدماغ" يأكل وعيَهُ وجسده. نالَهُ التهدّم لأنه ظلَّ محبوساً في شرنقة الذكريات. فراشته ترمّدتْ. يقول رينيه شار "أن نعيش يعني أن ننهي ذكرى ما". وهذا ما لم ينجزه الراوي أبداً؛ فعاشَ الحداد حتّى الثمالة.