يعود أحد أشهر موثقي قصة "سفر برلك"، وهي كارثة التهجير الجماعي التي حلت بأهالي المدينةالمنورة، والتي لا يزال أبناؤها يتناقلون القصص المروعة عنها، راوين محنة أسلافهم طوال ثلاث سنوات، يعود هذا الباحث والمؤرخ المديني أحمد أمين مرشد، لتحريك راكد الساحة البحثية بكتاب تاريخي جديد، ضمنه مئات الوثائق، والصور، والتسجيلات، متناولا فيه قضايا وجوانب بحثية وثقافية، عن تاريخ مدينة الحبيب المصطفى. "الوطن"، حصلت على مسودة الكتاب، باحثة بين طيات معلوماته التوثيقية، ودلالاتها الاجتماعية والدينية، متحدثة مع المؤلف، عن قصة طيبة الطيبة، وما لها من تاريخ يتخطى دائرة اهتمام أهلها، وهو تاريخ محل أنظار المسلمين جميعا، من مشرق الأرض حتى مغربها. الحجرة النبوية مرشد أفرد في كتابه الجديد، فصلا متكاملا عن مقتنيات الحجرة النبوية الشريفة، حيث تتبع الباحث بدقة طبيعة تلك المقتنيات، وعددها، وكيفية هجرتها عبر ما سُميَ حينها ب"قطار الأمانات المقدسة" إلى تركيا، من خلال عدد من الوثائق والتقارير العثمانية، التي كانت ترفع من مشيخة الحرم، إلى نظارة الأوقاف العثمانية، داعما بحثه بعدد واسع من الصور. زواج الأغوات ومن بين القضايا التي يتناولها مرشد في كتابه، الذي سيطبع قريبا، تحت عنوان "المدينةالمنورة في عيون المحبين"، ويتوقع أن تثير جدلا في الساحة البحثية، موضوع تاريخ "أغوات" المسجد النبوي، وهم ما يسمون ب" الخصيان"، الذين كانوا يقومون بوظائف خاصة في خدمة الحرمين الشريفين، وقد أفرد لهم مرشد صفحات تتناول جوانب من حياتهم الخاصة، وتتعرض لحقوقهم القانونية، في ظل الحكم السعودي. ويشير مرشد في هذا الباب عبر عدد من الوثائق والصور، إلى طريقة زواج "الخصيان"، متطرقا لطريقتهم الخاصة في عقد النكاح، حين كان الأغا يقول لمن يتقدم للزواج "منها"، واللواتي كان معظمهن من الجواري " أملكت عليكِ مكحلة بدون مرود". رتبُ الأغوات ويكشف مرشد من خلال استعراض عدد من الوثائق، عن سلم رواتب "الأغوات" في المسجد النبوي، وكذلك طريقة توزيع العمل بينهم، من قبل رؤسائهم. مشيرا إلى السلم الهرمي لمسميات وظائفهم، حيث تبدأ المرحلة الأولى ب"شيخ الأغوات"، والمرتبة الثانية ب"نقيب الأغوات"، والذي يليه "أمين الأغوات"، ثم "مشدي الأغوات"، وبعدها يأتي ما يسمى ب"خبزي"، وهكذا "نصف خبزي"، ثم "شيخ بطال"، و"ولد عمل"، وأخيرا "المتفرقة". فالخمسة الأوائل يسمون "خبزية"، وهؤلاء هم المسؤولون عن توزيع العمل بين الأغوات، وأقدم الأغوات يصبح شيخهم، وهو الناظر على أوقاتهم، والمسؤول عن سير عملهم في الحرم. وإذا مات شيخ الأغوات، يصبح النقيب شيخا، والأمين نقيبا، وهكذا بالتسلسل. العقاب جلداً وعن طريقة عقاب "الأغا" المخطئ، يذهب الباحث المديني، إلى أنه إذا رفض أحدهم إطاعة أوامر رؤسائه، كان يعاقبه شيخ "الأغوات" بالجلد، وهذا عقاب له، سواء أخطأ في الحرم، أو على أي شخص في الشارع، أو السوق، أو في أي مكان، واشتكاه هذا الشخص للشيخ. أما إذا رفض "الأغا" المخطئ العقاب، فيكتب الشيخ للجهات المختصة، بأن فلانا عصا أوامرنا، وإذا أمر الشيخ بفصله، يفصلونه. أبواب المدينة يلج مرشد للتاريخ المديني، عبر عدد من أبواب المدينةالمنورة الشهيرة، والتي لم يعد لبعضها أي وجود حاليا، بعد أن دخل الكثير منها ضمن المشاريع التنموية التي تشهدها طيبة الطيبة. ويستعرض ضمن أحد أبواب الكتاب، تاريخ باب "المجيدي"، وكذا باب "المصري"، الذي كان يعرف قديما بباب "المصلى"، إضافة إلى باب "سويقة"، والذي يعد من أبواب السور الأول، ويقع في الجهة الغربية من المسجد النبوي. ويروي الباحث قصة تسمية باب "العوالي" قديما، والذي كان يسمى بباب "النخيل"، لأنه يؤدي إلى مزارع النخيل الكثيرة في تلك المنطقة، وهو من أبواب السور الثاني. شوارع وذكريات ويمضي الباحث في تاريخ المدينةالمنورة، ليروي قصة عدد من شوارع المدينة، والتي من بينها شارع "العينية"، الشارع الذي ذاع صيته حتى أضحى "أشهر من نار على علم"، كما يقول مرشد. ويمتد الشارع من برحة باب "الرحمة" شرقا، إلى "المناخة" غربا، وتتفرع منه عدة أسواق. ونظرا لسعته وكثرة محلاته، يعتبر بمقياس هذا العصر، السوق المركزي للمدينة، فنجد فيه باعة الملابس الجاهزة، والحلويات، والآيسكريم، ومركبي الأسنان، كما الصيدليات، والمطاعم المتخصصة، والمقاهي، إضافة إلى بائعي الأحذية، والبقالات. المنبر الشريف والقبة قصة المنبر النبوي الشريف والمحراب، وتاريخ القبة الخضراء، ومآذن ومؤذني الحرم النبوي، وكذلك قصة "المكبرية" وهي دكة المؤذنين، والسقاية، ومساجد المدينة، ومقتنيات الحجرة النبوية الشريفة الأخيرة، التي يتناولها مرشد بموجب أحد التقارير العثمانية الصادرة عام 1326ه، كل تلك العناوين، علاوة على ملامح من تاريخ المدينةالمنورة الثقافي، والاجتماعي، وما تعرضت له من أحداث تاريخية مختلفة، في عصورها المبكرة، وحتى عصرنا الراهن، يرويها مرشد بأسلوب رشيق، يؤكد خبرته الطويلة في هذا المجال. 5 سنوات من البحث يقول الباحث أحمد أمين مرشد، إنه اشتغل على كتاب "المدينةالمنورة في عيون المحبين"، لمدة خمس سنوات، معتمدا على أرشيفه الخاص، الذي يضم مئات الوثائق العثمانية والعربية، والصور والتسجيلات، التي سجل معظمها بنفسه، حين كان في ريعان شبابه، حيث كان يحمل جهاز التسجيل والكاميرا الخاصة به، يتنقل بهما، قبل ما يزيد عن أربعين عاما، بين أحياء المدينة وأزقتها، وأسواقها القديمة في شارع العينية، والعنبرية، تستوقفه المعالم والأحداث، والرجال الذين تركوا خلفهم إرثا يستحق أن يؤرخ، وأن يترك للأجيال كما هو، ليعرفوا تاريخ هذه المدينة التي ارتبط أهلها بمنبر ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا كيف يحسنون الجوار. شهادة المحبين وعن قصة اختيار عنوان الكتاب، والذي خالف فيه مرشد سلسلة كتبه السابقة، التي كانت تطبع تحت عنوان" طيبة وذكريات الأحبة "، أشار مرشد في حديثه ل"الوطن" إلى أنه أراد من خلال العنوان أن "يوثق لتاريخ المدينةالمنورة، بشهادات محبيها ورجالاتها". ويميز كتاب مرشد الجديد مئات الصور، التي أحسن الباحث في توظيفها بطريقة تحكي تاريخ المدينةالمنورة، عبر عصور متباينة، خصوصا حين يعرض الباحث لقصة المدينة في العهد النبوي، حين كانت "يثرب" كما كانت تسمى على موعد وعدها الله إياه من الأمد الأول، ليتغير فيها كل شيء، ليصبح سكوتها حركة دائبة، وقلتها كثرة وازدحاما، بعد البيعة الكبرى التي تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين اليثربيين، في شعاب الجبال بين مكةالمكرمة ومنى، في أشهر الحج، ومنذ ذلك التاريخ بدأت "يثرب" رحلة جديدة من عمرها، مرحلة استقبال المهاجرين إليها من مسلمي مكة، تمهيدا لاستقبال رسول الله الأكرم. بحث عملي دؤوب يقول الباحث الدكتور أنور ماجد عشقي، في تعليقه على كتاب "المدينة في عيون المحبين"، إن مرشد و"بعد سلسلة من الأسفار والدراسات، التي بدأها بسجل لثلة من أهاليها في العهود الثلاثة، يطالعنا في هذه المؤلف الذي خصه بملحة عن تاريخ المدينةالمنورة، حيث تعرض للرسائل النبوية، ثم دخل للمسجد النبوي، وتوقف عند أهم معالم المدينة، حتى وصل بنا إلى الحجرة النبوية الشريفة، فبين كيف كانت لاطئة بالأرض، لا يزينها إلا الحبيب صلى الله عليه وسلم". وأشاد عشقي بتناول مرشد لمقتنيات الحجرة النبوية حيث "تتبع هجرتها إلى تركيا في دقة لم نقرأ عنها من قبل، وتوقف طويلا عند الآثار، وبين دور الصحابة، ليمنح القارئ فرصة كي يعيش عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه وآل بيته، يوم كانت المدينة مسورة بالعدل، فلم تكن في حاجة أسوار". العهد السعودي ولم يغفل الباحث في تاريخ المدينةالمنورة أحمد مرشد، تناول العهد السعودي، حيث أفرد صورا ووثائق، تكشف عن التطور الكبير الذي عاشته هذه البلاد في ظل التوسعات الكبيرة للحرم النبوي الشريف، حتى ضم المسجد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معالمها، من مساجد، ودور، وآبار مباركة. ويؤكد عشقي أن أحمد أمين مرشد، "أعطى العهد السعودي حقه، عندما توسع بذكر الإنجازات، فأبان اهتمام الملوك والأمراء بها، واختصر المسافات بين الماضي والحاضر، فذكر المقاهي، والأحواش، ليقدم للقارئ صورة فريدة عن المجتمع المديني وتطوره، بدقة لم نعهدها في غيره من المراجع". الركب المدني وفي حديثه عما كان يسمى ب"الركب المدني" يذهب الباحث مرشد، إلى أن الركب المدني عبارة عن تقليد ساد خلال القرن الهجري الماضي، عاشه الآباء والأجداد، وقد نشأ الركب من خلال ظروف اجتماعية خاصة، فرضتها مرحلة تاريخية. وعلى الرغم من سلبياته القليلة، وإيجابياته، فقد احتفظ ب"قيم يجب ألا نغفلها"، بحسب مرشد، معددا من أنواعه، "ركب البناني، وركب الحوالة، وركب الداغستاني"، متطرقا إلى مسيرة الركب إلى مكةالمكرمة للحج أو العمرة، حيث يتضمن الرجال والنساء والأطفال، ممتطين الخيول والجمال، ويتميز بالهودج الذي يحمل النساء. ويستغرق الطريق 13 يوما، حيث كانوا يجتمعون في مكان معين، غالبا ما يكون في منطقة "المناخة"، ثم إلى "العنبرية"، حيث كان مقر الأمير، فيقفون أمام بيته ويرتفع صوت الحادي بالنشيد قائلا، "هذه الرياحين في طيباء تعتطر، وذا السنا بماء المسك يستطر". السفر برلك ولم يذهب الباحث بعيدا عن قضيته الأشهر "سفر برلك"، حيث أفرد صفحات تحدث فيها عبر الوثائق عن المرحلين، في عهد عثمان باشا عام 1322ه، وكذلك الشخصيات التي نفتها الحكومة التركية، والذين بلغ عددهم 170 رجلا، من أعيان المدينةالمنورة، حيث نفتهم الحكومة إلى بلاد "البلغار"، ومنهم: زين صافي، وزين بري، ومحسن المخرج، وعارف بري، وعبد الله عطاس. ومن المدنيين الذين نفاهم "الاتحاديون" إلى "ويزة" من بلاد "البلغار": إبراهيم خربوطلي، ومحمد رشيدي، وحمزة كابلي، وحمزة عبد الجواد، وعمر كردي، وياسين كردي، وصالح كردي، وأحمد داغستاني، وسواهم. ومن المدنيين الذين نفاهم" الاتحاديون" إلى "بابا أسكي" من بلاد "البلغار": محمود حمودة، وسعود دشيشة، وحسين عامر، وعباس عبد الجواد.