كانت قضية القيم مدار حوار مفتوح في معرض تونس الدولي للكتاب (30 آذار/ مارس 2017)، بعنوان «دينامية القيم: الصدمات والتحولات». وكنت مشاركاً في هذا الحوار مع الدكتور فتحي التريكي، انطلاقاً من هذه المقالة. القيم كما أفهمها تعني جملة العناوين التي شكلت مرجعية فكرية وخلقية لأصحاب المشروع الحداثي، كالتنوير والعقلانية والتقدم والحرية، فضلاً عن الإنسانية ببعدها العالمي والكوسموبوليتي. بالطبع ليست اللائحة مقفلة أو ثابتة. فلا يجدر أن نغفل القيم التقليدية، ولكن الدائمة، كالحقيقة والعدالة والمساواة، أو الناشئة كالمواطنة والديموقراطية والتنمية. فأين نحن من منظومة القيم هذه؟ لا يحتاج المرء إلى أدلّة كثيرة كي يبيّن أن المجريات، عالمياً وعربياً، تشهد بأن القيم ليست على ما يرام، بل هي إلى تراجع، على وقع الانهيارات والتحوّلات التي تفاجئ وتصدم النخب الثقافية وأصحاب المشاريع الأيديولوجية، ممن مارسوا وصايتهم على العناوين الحضارية طوال عقود. المثالات فاضحة والمثالات بليغة وفاضحة: لنتوقف عند «العقلانية» التي هي عنوان المشروع التنويري. فهي تسجّل تراجعها، على الرغم من كل هذا التطور الهائل في نظريات المعرفة وصيغ العقلنة وأنظمة البرمجة. يشهد على ذلك عجزُ الإنسان عن التدبير في ما يخصّ تركيب الحلول لمشكلاته المتراكمة، أو عجزُه عن توقّع ما هو آت. بل إن ما يصنعه الإنسان اليوم يكاد يتجاوزه ويفلت من سيطرته. إذا أخذنا «المواطنة» نجد أنها أصبحت في خبر كان، في معظم دول العالم العربي. هذا ما حصل بعد صعود التيارات الأصولية التي صنعت وصدّرت نموذج المؤمن المتعصّب، الكاره لسواه، ضداً على نموذج المواطن الذي يتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات، وإن اختلف عنه في الدين والعرق، أو في اللون والجنس، وسواها من وجوه الخصوصية الثقافية. بالنسبة إلى «الإنسانية»، فهي في الحضيض الأسفل، بعد كل هذه المواثيق والعهود حول حقوق الإنسان وحريات الشعوب. فأين هو الإنسان اليوم؟ من كان يتخيّل قبل ستين عاماً أن بلداً عربياً، رفع شعارات التقدم والعروبة والتحرّر، يتحول إلى «مسلخ بشري»، على مرأى ومسمع من العالم العاجز والساكت أو المستفيد والمتواطئ. أما «العالمية»، شعار المثقف التنويري الكوسموبوليتي، فهي الأخرى تشهد تراجعها أمام الموجات الشعبوية والعنصرية، التي تجتاح غير بلد أوروبي، على يد قوى وأحزاب تطرح، ليس فقط العودة عن المكتسبات الحديثة، بل هي تدعو إلى فرط الاتحاد الأوروبي الذي يعدّ أحد منجزات العقل التداولي المعاصر. أتوقف أخيراً وليس آخراً عند «الحقيقة»، التي هي الأيقونة لدى المثقف، وخصوصاً لدى الفيلسوف الذي يقدم نفسه بوصفه عاشق الحقيقة والشاهد عليها أو شهيدها، فهي آخذة في التفكّك، كما يعبّر عن ذلك مصطلح «ما بعد الحقيقة»، بحقائقه «البديلة» المنسوجة من الكذب أو الخداع والتلاعب. ولهذا المصطلح ما سبقه وهيّأ له منذ زمن، تماماً كما لأن للواقع ما قبله وما بعده، كما له ما فوقه وما تحته، بدءاً من التشكيك بنظرية التطور من جانب المؤمنين بعقيدة الخلق الديني، وصولاً إلى التشكيك بالنظريات العلمية حول تدهور المناخ وارتفاع حرارة الأرض. فأين هي الحقيقة وسط كل هذا الارتباك والارتياب وكل هذا التردّد والتخبط؟! مختصر القول أن الوضع البشري، على مستوى القيم، لا تفي به سوى كلمات الأكذوبة والعدمية والكارثة. وتلك هي المفارقة الفاضحة. فالإنسان يشهد على نفسه بنفسه، بأنه لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو إليه، ولا يصنع إلا النماذج التي يدعي محاربتها. كيف نفسّر هذا المأزق؟ وما السبيل للخروج منه؟ هنا محاولة تتناول القضية على سبيل المقاربة والمعالجة. ترويض الوحش البشري ما تشهده المجتمعات، خصوصاً في الغرب، من التحولات العميقة والبنيوية، المجتمعية والثقافية أو السياسية والحقوقية، أفضى إلى زعزعة القيم المتوارثة، التي تنقل عبر العائلة والمدرسة والجامعة، أو عبر الحزب والنقابة وهيئات المجتمع المدني. تلك كانت المفاعيل والتداعيات، من ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 وكانت ضد النظام القائم السياسي والثقافي، إلى الليبرالية الجديدة التي اتّسعت معها الحرّيات الفردية، ومن فلسفات ما بعد الحداثة التي تصدّعت معها مفاهيم وتفكّكت قيَم، إلى العولمة بحداثتها الفائقة، السيّالة والعابرة. مثل هذا التحول أفضى إلى ولادة أشكال جديدة من الوعي بالذات انكسرت معها الأطر التقليدية والحديثة التي كانت تنظم العلاقات بين الأفراد أو بين الفرد والمجتمع. لم يعد الفرد يتصرف بوصفه مرآة مجتمعه أو حامل قيمه وأختامه، بل يفكر ويعمل، بصورة مستقلة، حرة، لكي يبني ذاته بابتكار نمط حياته وتشكيل رأسماله الرمزي من القيم والمعايير. ولا يعني ذلك أن الفرد المتحرر يرفض قيم العقلانية، ولكنه لم يعد يقتنع بجدوى الصيغ المستخدمة في الفهم والتشخيص، كما أنه لم يعد يقتنع بجدوى الديموقراطية التقليدية في التمثيل الصحيح للمواطن. وهكذا سائر العناوين، إذ هي فقدت جاذبيتها على التحريك والتأثير الإيجابي والبناء. وفي هذا مثال يبين كيف أن الشعار التنويري قد يتحول لدى داعيته إلى ضده، قصوراً وتخلفاً. والمخرج لا يعني العودة المستحيلة إلى سياسة القولبة والتطبيع. بل تجاوز الثنائية التي تضعنا بين فكّي الكماشة: الفردية المطلقة أو النظام الشمولي، التوحّد مع الذات أو الذوبان في الجماعة. فلا فرد يكتفي بذاته أو يعيش عيشةً سوية من دون بيئة أو وسط اجتماعي. نحن إزاء تحول نتجاوز معه مفهوم المواطن، نحو مفهوم الفرد المنتج، الفاعل، المشارك. ومَنْ هذا شأنه لا يتصرف كفرد في قطيع أو رقم في حشد، ولا يعمل في المقابل بشعار «أنا أو لا أحد»، هاجسه الوحيد تحقيق مصلحته الخاصة على حساب المصلحة العامة أو الإضرار بمصالح الغير. الخيار البّناء هو أن يمارس المرء حيويته الوجودية ويستثمر طاقته على الإنتاج والإبداع، على النحو الذي يتيح له أن يكون مشاركاً في تنمية مجتمعه بكل معاني الشراكة، الخلقية والاقتصادية والسياسية. ولذا، فالرهان هو كسر ثنائية الفرديات المنعزلة والجماعات المغلَقة، بحيث يأتلف نجاح الفرد مع الخير العام ويساهم في ازدهار المجتمع، وذلك عبر تعزيز وتوسيع قيم التداول والتبادل والتعاون. مع ذلك لا يجدر تبسيط الأمور، فالعمل من أجل الخير العام مهمة شاقة تحتاج إلى العمل المتواصل على الذات، من أجل ترويض الوحش البشري الذي يسكننا، بحيث لا تتغلب عند المرء أناه النرجسية وميوله العنصرية ومخيّلته الاغتصابية وسيناريوهاته الجهنمية على قيم الشراكة والتضامن. إرهاب الضحايا لا شك في أن قضية «التعددية الثقافية» كان لها دورها في تراجع مفهوم العالمية الجامعة لبني البشر، بما انبثق عنها من مفاهيم، وبالأخص مفهوم «الحقوق الثقافية» الذي يعدّ امتداداً وتطويراً لشرعة حقوق الإنسان. والتعددية الثقافية، شأنها شأن أي مفهوم أو شعار، يمكن استخدامها على الوجه الإيجابي والبناء، وبالعكس، إيجاباً بمعنى أنها جسّدت قيمة جديدة، تقوم على احترام ورعاية الخصوصيات الثقافية للجماعات، أو للأقليات والفئات المهمّشة التي تعرضت للظلم والاضطهاد أو التي ادعت ذلك، بسبب التمييز على أساس الدين والطائفة أو اللغة والعرق أو اللون والجنس. غير أن مفهوم الحق الثقافي قد وُظّف بصورة سلبية إقصائية، بمقدار ما تمّ التعامل مع الخصوصية الثقافية أو الوضعية الأقلوية، بصورة مغلقة، عنصرية، أو فاشية ولّدت التطرف والعنف أو الصدام بين الهويات الثقافية، بل داخل الهوية الواحدة. بذلك تحول حق الاختلاف إلى أداة ابتزاز أو إرهاب. هذا ما تفيده التجارب المريرة في غير بلد عربي، حيث ترجم حق الدفاع عن الخصوصية، إلى عنصريات مضادة، انفجرت حروباً أهلية بين المسلمين، أو تُرجم ضد الاندماج المجتمعي بتغليب الهوية الدينية على الهوية الوطنية، كما هي حال المسلمين الأوروبيين. انه إرهاب الضحايا كما أسمّيه، وهو الوجه الآخر لديكتاتورية الحقيقة. بهذا المعنى، فإن «صدام الحضارات» هو ثمرة سيئة من ثمار التعددية الثقافية. وأنا أخالف هنا صاموئيل هنتنغتون، لأنني لا أقول بصدام الحضارات، بل بصدام الديانات والهويات الثقافية. لأن الدين لا يصنع حضارة، بل يطيح المكتسبات الحضارية، في مجال الحريات الديموقراطية وحريات التعبير، لكي يصنع العبودية، عبر تشكيل النماذج الإيمانية التي تدافع عن مقدساتها بمنطق الإقصاء الرمزي والاستئصال الجسدي. والمخرج هو تجاوز مفهوم التعددية الثقافية إلى ما بعده، بكسر ثنائية العالمية والخصوصية، إذ لا يوجد في النهاية سوى الخصوصيات، مع فارق أن هناك خصوصية تمارس علاقتها بأصولها وقيمها وتراثها، بصورة مغلقة، جامدة، كسولة، عدوانية. وفي المقابل، هناك خصوصية ثقافية تمارس علاقتها بثوابتها بصورة منفتحة، متحوّلة، خلاقة، عابرة. لهذا لم تعد المسألة هي المفاضلة، بين العالمية الواحدة المتعالية والخادعة، وبين الخصوصيات المتعددة، المنعزلة والعنصرية. وإنما هي كسر مقولات الأصل والصفاء والاصطفاء والأحادية، إذ هي تحوّل الهويات إلى معسكرات ثقافية أو إيديولوجية لا تنتج سوى الحروب في هذا العصر. إن الهوية الحية، الغنية، الجذابة، لا تمارس كعقدة تجاه الغير، أو كقوقعة في مواجهة المتغيرات، وإنما هي التي يمارسها صاحبها بصورة مرنة، تعددية، مركّبة، بمقدار ما هي مفتوحة على تعدد اللغات والثقافات أو الأمكنة والجنسيات أو النماذج والأنماط. ومَن هذا شأنه لا يكون أسيراً لهوية مسبقة تختم على عقله بمحرماتها وقوالبها، بل يصنع هوية تبقى قيد التشكل والانبناء والتجدد، بالعمل المتواصل على الذات، بمفردات الاعتراف، والتعددية، والتهجين، والتسوية، لابتكار ما هو مفيد وبنّاء أو جذاب وعابر. وهذا هو الرهان، مع أن المعادلة هي هنا أيضاً شاقة: أن ينجح الفرد في التأليف الخلاق، لما يتعدد ويتنوع أو يختلف ويتعارض، مما تتشكل منه مكونات شخصيته ووقائع وجوده، من العناصر والروافد أو الميول والأهداف أو المطامح والمقاصد. عقيدة الأعلى من العوامل التي ساهمت في زعزعة القيم الحديثة، كوننا ندخل في عصر تقني رقمي، أصبحت فيه الشاشات والشبكات والصحائف الإلكترونية مصادر لا غنى عنها للحصول على المعارف التي تساهم في تكوين شخصية الفرد. بذلك ننتقل من المجتمع النخبوي بعلاقاته الفوقية، العامودية، نحو المجتمع التداولي بعلاقاته الأفقية التبادلية، وذلك حيث المجتمع هو شبكة تأثيراته المتبادلة، بمقدار ما هو صيرورة تحولاته المتواصلة. هذا التحول يقتضي كسر منطق التعالي وتفكيك عقيدة الأعلى. ولنتأمل مآلات السعي نحو الأعلى في بعض نماذجه: فالكائن الأعلى، الغائب دوماً عن المسرح، أسس لنظام يستعبد فيه البشر بعضهم بعضاً. والإنسان الأعلى مهمة مستحيلة سار وراءها نيتشه لكي تقوده إلى الجنون. والمصلحة العليا كثيراً ما استخدمت ستاراً لقمع من هم تحت أو لتغطية المساوئ والمفاسد لدى من هم فوق. أما المرشد الأعلى، الذي يحكم باسم الكتاب المقدّس أو الإمام المعصوم، فإن سياسته حيث ترجمت، في الداخل أو في الخارج، قادت إلى هلاك العباد وخراب البلاد. من هنا لا أقول مع ريجيس دوبريه ومارسيل غوشيه إننا نحتاج إلى «أنا أعلى» سياسي، لمجابهة إخفاق السياسات يميناً ويساراً. ما نحتاج إليه هو رسم استراتيجية جديدة في التدخل والتوسط أو في المقاربة والمعالجة، بحيث تدار المصالح وتدبر الشؤون، بمفردات الفضاء والمساحة، أو الحقل والمجال، أو الورشة والشبكة، أو الوسيط واللاعب، أو الموجة والصيرورة. ولنحسن التشخيص: فلا أحد يجسد، في ذاته، المنسوجة من الفجور والتقوى، القيم العليا والخير الأقصى. نحن أدنى شأناً مما نحسب من حيث علاقتنا بالقيم والمبادئ. والدرس هو ممارسة التقى الفكري والتواضع الوجودي، بحيث نعمل، إذا شئنا الفكاك من المأزق، على خفض سقف المقدسات والمتعاليات، كي لا نحصد الأسوأ، الأمر الذي يقتضي تغيير نظرتنا إلى الحقيقة وإلى الفكر، وخصوصاً إلى القيم. ولذلك حديث آخر.