تظل شخصية المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون من الشخصيات المثيرة للجدل، وكذلك هو شأن الشخصيات العبقرية والعظيمة، ولقد تناول دراسته الكثيرون من رجال العلم وأصحاب الدراسات وأساتذة الجامعات، وخرجوا بدراسات عميقة وجميلة، ولكنها قد تصل فيما بينها إلى حد التناقض والتضاد، وهذا هو سر عبقرية المؤرخ ابن خلدون. وسنتطرق في هذا المقال لاثنين من كبار المفكرين الذين تعرضوا لشخصية ابن خلدون وهما الدكتور طه حسين والدكتور علي الوردي، وبقراءة بسيطة لرسالة الدكتوراه التي تقدم بها طه حسين إلى جامعة السوربون عن ابن خلدون، سنعلم أنه خرج بنظرة وآراء جلية بالاحترام حول هذا العالم الكبير، فيرى أن ابن خلدون له الريادة في تمحيص بعض الآراء التاريخية دون النقل الأعمى لها، فمثلا ابن خلدون يرى أن الأنساب العربية كباقي التقاليد العربية نسخت في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إما لأسباب سياسية أو ملقا لكبار الأغنياء، كما يرى أن التاريخ يعيد نفسه كثيرا، ولعله أول من تطرق إلى هذا الأمر، ويحسب لهذا المؤرخ العظيم أنه صاحب الريادة باعتباره أول من نظر إلى التاريخ من حيث أنه كل لا يتجزأ، وتخيل طريقة لتمحيص الوقائع التي تكونه، وابتدع علما جديدا يساعده على فهمه، ومما يعاب عليه أنه سن منهجه في المقدمة، لكنه يخالفه أحيانا في عرضه لسرده. كما أن لابن خلدون نظرة حول زملائه المؤرخين، فهو يرى أن أغلبهم يخطئ في تاريخه لأسباب معينة، فالمتشيعون منهم يخطئون في سردهم لتاريخهم لأسباب سياسية كتحاملهم على بني أمية، كما أن البعض منهم يصدق كل ما يصل بين يديه من الرواية دون فحص أو تمحيص، بالإضافة إلى أنه يرى أن كثيرا من المؤرخين جاهل بطبائع الأحوال في العمران -أي طبائع المجتمعات- كما أن لابن خلدون قصب السبق والريادة في مسألة الجبر التاريخي الذي سبق به مونتسكيو. ويرى الدكتور طه حسين أن ابن خلدون كان يحتقر الزراعة، واعتبر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه الراشدين كانوا يحتقرونها كذلك، واستدل بحديث ضعيف، ويستدل بأنها طريق للرفاهية وبالتالي هي تضعف القبيلة، ويقول إن ابن خلدون يرى أن الدول في الأساس تتأسس على العصبيات، وأن العصر العباسي الثاني أضعف العصبة العربية عندما أقصى المأمون العرب من الجيش، لدرجة أن الجيش الرسمي لم يكن به عربي واحد على الإطلاق، ومن هذا المنطلق بدأت الشعوبية بالانتشار، وأصبح الشعراء من ذوي الأعراق الفارسية يفتخرون بعرقيتهم الفارسية كأبي نواس. أما قراءة الدكتور العراقي الشهير علي الوردي الذي ألف كتابا وسمه ب(منطق ابن خلدون) فسنتطرق إلى زاويتين منها، الأولى أنه يرى أن ابن خلدون كتب مقدمته بشكل غير مرتب أو منظم، مما جعل الباحثين مختلفين في محور النظرية،، فيرى الأستاذ ساطع الحصري أن فكرة (العصبية) هي المحور الذي يدور عليه معظم المباحث الاجتماعية في المقدمة، وهذا مذهب أغلب من درس ابن خلدون ونظريته، وأن الدكتور طه حسين يرى أن المقدمة تدور رحاها حول موضوع الدولة، وبالتالي فابن خلدون لا يستحق أن نطلق عليه لقب عالم اجتماع، لأن موضوع الدولة أضيق من أن يصلح موضوعا لعلم الاجتماع، أما هو -أي الوردي- فإنه يخالف الاثنين ويرى أن نظرية ابن خلدون تدور حول موضوع واحد هو أوسع نطاقا، وهو (صراع البداوة والحضارة)، ويمكن القول إن لها جانبين (سكون ) والآخر (حركي)، فالجانب السكوني يتمثل في تعيين خصائص البداوة والحضارة، وكيف تظهر هذه الخصائص في كل منهما على حدة، أما الجانب الحركي من النظرية فيتمثل في دراسة التفاعل والتصارع بين البداوة والحضارة وما ينتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية مختلفة. والثانية أن لابن خلدون نظرية ريادية عظيمة في التربية بأن التربية الصحيحة ليست في إعداد أفراد جيدين يستطيعون تأليف أحسن حكومة كما يرى أفلاطون وأرسطو ومونتسكيو، بل يرى كما يرى رجال التربية الحديثة -ولا سيما اسبنسر- في إعداد رجال يستطيعون العيش جيدا.