الإرهاب ليس له عنوان.. ولا صندوق بريد، يضرب أينما كان، وحيثما تكون الغفلة وقلة الوعي، ضحايا الإرهاب توزعت دماؤهم بين تردي التعليم والثقافة والوعي وحيثما يوجد عقل جاهل ومريض. ليس تردي التعليم هو السبب الوحيد وعلى المدى البعيد في تفشي التطرف والإرهاب، فكم رأينا من مهندسين وأطباء وذوي تعليم عالٍ وشهادات جامعية من المنضوين تحت مختلف الحركات الجهادية والإرهابية، ومعظم قياداتهم في حركات وأحزاب الإسلام السياسي، تلك الحركات التي هي في حقيقتها المدرسة والحاضنة الوحيدة التي تخرجت منها كل أفكار التطرف الديني، والتي هي أيضا ومنذ تأسيسها كانت أداة في يد القوى التي خلقتها ودعمتها ولعقود طويلة، تحركها أينما وكيفما ومتى تشاء، وقد أسهمت طيلة عقود في إرهاب امتد جغرافيا في كافة الاتجاهات ولغاية الفوضى الضاربة «الخلاقة»، فكم من الناس التحقوا بتلك الجماعات الإرهابية من دول غربية متقدمة ناهيك عن بقية أطراف العالم.. هل أزمة الثقافة والمثقف هي سبب التطرف والإرهاب؟ ربما، لكنها ليست السبب الوحيد، فمن بين أولئك الإرهابيين العديد من المثقفين والمفكرين والمنظرين الذين يصوغون لهم الأفكار ويسوغونها لتسهيل انخراط المزيد من المغرر بهم، ومنهم كتاب وإعلاميون يروجون لهم ويجملونهم وينشرون أكاذيبهم، فكم من متطوعين جهاديين يتركون الحضارة والمدنية في الغرب ويأتون للعيش في الكهوف والأنفاق، فهل كل هؤلاء جاؤوا لأجل الجهاد؟ وحبا وقناعة وفداء لأجل الإسلام والشهادة، وطلبا للجنة والحور العين، فهي كلها أمور لا يفقهون منها شيئا ولا يعرفون مضامينها..؟ من هذا نخلص إلى أن التعليم والثقافة هما جزء من المشكلة والسبب في آن واحد، ولكنها ليس كل شيء.. تناولنا بمقال سابق العلوم الإنسانية كأساس للحضارة وصناعتها، وأن غياب الوعي وتراجع الإدراك هو نتيجة تراجع الإبداع الفكري الإنساني، إن من أخطر ما يواجهنا من تحديات بالإضافة إلى تردي التعليم وتراجعه، وأزمة الثقافة والمثقف، وتراجع الكتاب والقراءة والاطلاع أمام تغول مفاتيح وألعاب العصر، والتي أدت إلى ما هو أهم وأخطر ألا وهو تراجع الوعي، وهو ما سهل الطريق إلى تنامي عقلية ونموذج المتطرف في عالمنا وبشكل وحشي لم نعهده من قبل، لتضيع دماء الأبرياء وتتوزع بين القبائل ((تردي التعليم، وسطحية الثقافة والمثقف وتفشي الجهل، وتراجع وتدني الوعي)).. فالوعي هو المحصلة النهائية لمجمل عملية النمو الفكري والحضاري. سيظل الإرهاب والتطرف موجودا في عالمنا، ولن يستطيع أحد تجفيف منابعه كما ينبغي، وكما يتشدقون دوما، حتى لو عالجنا مشاكل التعليم والفقر وأزمة الثقافة والمثقف وزيادة معدلات الوعي والارتقاء بها، فهي كلها عناصر تساعد على تقنينه وتحجيمه لأجل إبطائه وتعويق انتشاره، رغم ذلك سيظل الإرهاب يضرب في كل مكان بلا حدود ولا عنوان.. ما دام هناك قوى تموله وترسم له كل يوم شكلا جديدا لخدمة المصالح والأهواء، وما دام هنالك دوما آليات لتصديره، وما دام هناك عقول جاهلة ونفوس ضعيفة وضمائر معروضة للبيع والشراء، وهنا مكمن الخطر في تمدده وانتشاره. لقد عانت ودفعت أثمانا غالية من أبنائها وعمرانها وحضارتها، البعض من بلادنا من خلال تغير بوصلة الكثير من الأنظمة في الإقليم وتنقلها المستمر بين نقيضين، في لعبة للقفز الطويل بين واقعين متباينين، وفي وقت قياسي تبعا لتغير بوصلة مصالحها، هنا تكمن المخاطر الحقيقية لأمننا الوطني والقومي والإقليمي على حد سواء، في فترة ما جعلوا البعض من بلادنا بؤرة ومركزا لتجميع وتجمع كل أشكال الحركات المتطرفة والإرهابية، وعملوا على تدريبهم وتسليحهم وتسهيل انتقالهم وتأمين عبورهم إلينا، وكان هذا هو هدف تلك المرحلة «المحنة»، في تشكيل عناصر الإرهاب ولملمة أطرافه المبعثرة. واليوم وبعد أن تحقق الهدف من ذلك، وفرضت ورسمت تلك الحركات واقعا من الفوضى والمناطقية على الأرض، وكما هو مرسوم ومخطط ومطلوب منها، آن وقت رحيلها ومحاربتها وتسهيل انتقال ما تبقى من عناصرها إلى مكان آخر نحو أهداف جديدة، يُرْسَم لها بعناية وبصبر وتؤدة وأناة، لترسيم منطقة صراع وساحة للاقتتال جديدة ومستمرة على أراضينا على امتداد وطننا الكبير. سيظل الإرهاب ينتشر بيننا، وأينما وجد أرضا رخوة وحاضنة فيها فراغ وتباين اجتماعي نتيجة غياب العدالة وقلة الوعي وحيث يسود الجهل.. وكلما زاد عدد المتفرجين الذين لا يفعلون شيئا سوى المشاهدة بصمت وامتعاض.