تصر القوى السياسية المشاركة في الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ عام 2003، على أن التجربة الديمقراطية في العراق فريدة من نوعها في المنطقة، رغم ما تشهده البلاد من أزمات خانقة. وتلك رؤية تنطلق من حسابات المصالح، وتجاهل ما يدور في الشارع من استياء وضجر وغضب، تحول إلى اعتصامات وتظاهرات تطالب بتوفير الخدمات الأساسية، ومعالجة مشكلة البطالة، ومحاسبة المسؤولين المتورطين بالفساد المالي، وإحالة من كان سببا في سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من أراضي العراق إلى القضاء، بتهمة الخيانة العظمى، في إشارة واضحة إلى رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي. وعلى مدى السنوات الماضية فشلت الأطراف المشاركة في الحكومات المتعاقبة في إرساء قواعد بناء دولة المواطنة، وانشغلت بتقاسم المناصب الوزارية والمواقع الرسمية، مما أدى إلى احتلال العراق المرتبة الأولى في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، ويمر حاليا بأزمة مالية جراء انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية. سياسة عرجاء اعتاد زعيم ائتلاف الوطنية، إياد علاوي، على وصف العملية السياسية في العراق، بأنها "عرجاء" لخضوعها لتدخلات خارجية، واعتمادها على مبدأ التوافق، وسط غياب الاتفاق على تعديل المواد الخلافية الواردة في الدستور. وأكد علاوي في تصريح صحفي أن الحكومة أحرقت العراق بنار الطائفية والمحاصصة، مشددا على أهمية تضافر الجهود الوطنية لإرساء قواعد بناء دولة مواطنة تكفل حقوق الجميع. في سياق متصل، عكست جلسة مجلس النواب، الثلاثاء الماضي، بما شهدته من فوضى، الوجه الطبيعي للعملية السياسية في العراق، حين اقتحم نواب معتصمون الجلسة، وأخذوا يضربون الطاولات بالأيدي، في حضور رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي لم يسلم من رشقه بعلب المياه، مما أدى إلى حصول اشتباك بالأيدي بين عناصر حماية العبادي وبعض النواب المعتصمين. وعلى خط مواز، اقتحم أتباع زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بوابات المنطقة الخضراء، للضغط على البرلمان للتصويت على قائمة مرشحي التشكيلة الوزارية الجديدة. اقتحام المنطقة الخضراء اقتحم آلاف المتظاهرين، المنطقة الخضراء في بغداد، وعمد بعضهم إلى بعثرة محتويات البرلمان، بعد رفض النواب التشكيلة الحكومية الجديدة. وأوضحت مصادر أن التظاهرة بدأت صباحا، لكن المشاركين فيها اقتحموا المنطقة بعدما فشل النواب مجددا في الموافقة على تشكيلة حكومية من التكنوقراط عرضها رئيس الوزراء حيدر العبادي. وبدأ التحرك بعد دقائق من مؤتمر صحفي عقده مقتدى الصدر في مدينة النجف، منددا بالمأزق السياسي الذي تشهده البلاد، دون أن يأمر المشاركين بالتظاهر، وبينهم عدد كبير من أنصاره، بدخول المنطقة الخضراء. وجدد الصدر رفضه المشاركة في حكومة تعتمد المحاصصة، بمزاعم الوزراء التكنوقراط، مؤكدا أن المالكي وقف ضد تحقيق الإصلاح. وقال "مهمتنا مواجهة الأحزاب التي تقف ضد إرادة الشعب، والمالكي سلم العراق إلى تنظيم داعش ولن يكون من حلفائنا بعد اليوم". احتجاجات شعبية في يوليو من العام الماضي، اندلعت تظاهرات احتجاجية مطالبة بتوفير الخدمات، تحولت إلى اعتصامات قادها الصدر، فنصب خيمة داخل المنطقة الخضراء، للضغط على أصحاب القرار لإجراء إصلاحات، تلبي القاعدة الشعبية الواسعة من المجتمع، التي يعيش معظمها تحت خطر الفقر. وبحسب المراقبين فإن مواقف الصدر اتسمت بمفاجآت تربك المشهد السياسي، بينما يرى خصومه أنه ركب موجة الاحتجاج لتحقيق مكاسب سياسية. وإبان حكومة المالكي، وبعد صدور مذكرة اعتقال ضد وزير المالية السابق، رافع العيساوي، وقبله نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، اندلعت تظاهرات تندد بالقرار، واصفة السلطة القضائية بأنها بيد المالكي. ومنذ ذلك الوقت برزت أزمات سياسية ما زالت تداعياتها حاضرة في المشهد العراقي. وقال المحلل السياسي جمال هاشم، في حديث إلى "الوطن": "الاشتغال السياسي على المناطقية، ومحاولة استئثار كل جهة بتمثيل طائفة دينية معينة، وإعلانها ذلك صراحة ضد رغبة الشعب العراقي، أسهم في احتقان الأوضاع، وأدى إلى بروز حالة من التوتر الطائفي والعرقي، غذاها التدخل الإيراني في الشأن العراقي لمصلحة جهات سياسية مرتبطة بطهران". حكومات نفعية دعا النائب عن اتحاد القوى العراقية، ظافر العاني، إلى تعزيز مبدأ الشراكة في إدارة الدولة، وقال في تصريح إلى "الوطن": "المشهد السياسي مرتبك، لأن الحكومة تجاهلت مبدأ الشراكة، وألقى الصراع الإقليمي بظلاله على المشهد، بتأجيج النعرات القومية والعرقية والطائفية، حتى أصبح ورقة رابحة تستخدمها بعض الأطراف المشاركة في الحكومة، على حساب ترسيخ مفاهيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات"، مشيرا إلى أن الخلل في الدستور الذي أسهم بدوره في اعتماد التوافقات لتجاوز الأزمات لمرحلة معينة، ثم سرعان ما تظهر على السطح لغياب الحلول الجذرية للقضايا العالقة، ومنها تحقيق التوازن وتنفيذ المصالحة الوطنية، وتشريع القوانين الخاصة بتنظيم الحياة السياسية والعفو العام. تشكلت الحكومات العراقية بعد عام 2003 بمزاعم تحقيق الشراكة الوطنية، لكنها أصبحت مصدرا لاندلاع الأزمات، وبخاصة خلال ثماني سنوات، كان فيها نوري المالكي رئيسا للحكومة في دورتين متتاليتين. وأوضح الكاتب والمحلل السياسي، أحمد العاني، حرص المشاركين في الحكومات السابقة على تقاسم المغانم. صراع المصالح الشخصية قال العاني "ما يحدث حاليا نتيجة لأن تلك الحكومات شيدت على أسس خاطئة، استبعدت منها الهوية الوطنية، والاحتكام إلى علاقات غابت عنها الثقة المتبادلة، وسيطرت عليها الشكوك والمخاوف والريبة بين أطرافها، واتهام بعضهم الآخر بالسطوة والاستحواذ على صنع القرار". وأضاف أن حالة الصراع الدائم بين الأطراف المشاركة في الحكومتين الحالية والسابقة، تؤكد حقيقة عجز أطرافهما عن إيجاد حلول للمعضلات القائمة بمعالجة التدهور الأمني، وتقديم الخدمات الضرورية، ومواجهة مظاهر الفساد المالي والإداري، واقتلاع جذوره، وتوفير فرص العمل للعاطلين، خاصة الخريجين، ومعالجة الثغرات الكبيرة في واقع المدن العراقية، وما تعانيه من تخلف وتدهور في معظم مرافقها الحيوية. وأشار إلى أن احتدام الأزمة بين أقطاب العملية السياسية والعجز عن احتواء تداعياتها، نتاج صراع المصالح والاستحواذ على أكبر قدر من الفوائد التي يتم الحصول عليها من نظام المحاصصة، على حساب معاناة الشعب وآماله وتطلعاته، مؤكدا أن الخلافات والتناقضات بين القوى والأحزاب السياسية لا تحتمل السكوت أو الإبقاء عليها دون معالجات جذرية لها. جذور الخلاف ظلت القوى السياسية العراقية متمسكة بمواقفها المنطلقة من دوافع طائفية ومذهبية، رغم توقيع وثائق شرف والاتفاق على مشاريع الإصلاح، وأدى ذلك إلى انتقال عدوى الخلاف إلى الشارع العراقي، في ظل وجود ميليشيات تابعة لأحزاب متنفذة. في هذا السياق، قال الوزير والنائب السابق وائل عبداللطيف، في تصريح إلى "الوطن"، إن النخب السياسية الحالية أثبتت عجزها عن تسوية خلافاتها، لفشلها في فهم الديمقراطية فلجأت إلى التهديد واستخدام سلاح الميليشيات لفرض حضورها في الساحة وتجاهلت تحقيق مصالح الشعب. وأضاف "فقدت الديمقراطية معانيها في العراق، وأفرزت طبقة سياسية ليس من مصلحتها إجراء تغييرات جوهرية تتعلق بتعديل الدستور والنظام الانتخابي"، متوقعا اندلاع انتفاضة شعبية ترفع غطاء الشرعية عن النخب السياسية لفشلها في تحقيق مطالب العراقيين والتخفيف من معاناتهم. وأعرب عبداللطيف عن قلقه من غضب الشارع، في ظل غياب قوى سياسية قادرة على احتواء الانتفاضة الشعبية وتوجيهها نحو المسار الصحيح، مناديا في الوقت نفسه بتصحيح أخطاء السنوات السابقة، وإجراء انتخابات تشريعية بإشراف منظمات دولية، مع تفعيل قانون تشكيل الأحزاب، مشددا على أهمية إعطاء دور لمنظمات المجتمع المدني المستقلة للتعبير عن إرادة الشارع. تعطيل المصالحة تضمنت وثيقة الإصلاح السياسي، بوصفها برنامج الحكومة الحالية، فقرة تنص على تنفيذ مشروع المصالحة الوطنية عبر التحرك على القوى المعارضة، للمشاركة في العملية السياسية والتعاون مع القوات الأمنية للقضاء على تنظيم داعش. وكان رئيس الوزراء، حيدر العبادي، شكّل لجنة ارتبطت بمكتبه لتنفيذ المشروع، بادئا نشاطه السياسي الداخلي بخطوات هدفها تصحيح أخطاء سلفه المالكي، لاستعادة العلاقات الطبيعية مع القوى السياسية الكردية والزعامات السياسية والعشائرية في غرب العراق من خلال تمثيل واسع لهم في حكومته. وعلى الصعيد الخارجي، حاول العبادي إشراك الأشقاء العرب في معالجة معضلة الإرهاب في العراق؛ فتوجه إلى الأردن من أجل المساعدة في فتح قنوات اتصال مع مسؤولين في النظام السابق من مدنيين وعسكريين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء العراقيين أو قمعهم، على أمل أن يؤدوا دورا إيجابيا في مساعدة بلدهم وشعبهم، وبخاصة أن لبعضهم نفوذا داخل المعارضة. وذهب الخبير الاستراتيجي، علي الأسدي، إلى القول بأهمية الاستعانة بدول الجوار، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، في تحقيق المصالحة الوطنية بين الأطراف العراقية، وقال "المملكة تمتلك حضورا فاعلا في الساحة الإقليمية، وسبق أن أعلنت دعمها للعراق في المجالات كافة. التقسيم بتشجيع أميركي وسط تفاقم الأزمات السياسية في العراق، ووصولها إلى طريق مسدود، تبرز نصيحة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، حين دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. وبينما منح الدستور إمكانية إقامة إقليم في محافظة أو أكثر، اعتادت كردستان على التلويح بالانفصال حين تصل العلاقات بين بغداد وأربيل إلى حافة الهاوية، والعلاقة بين الجانبين خاضعة للشد والجذب وتعد مظهرا من الأزمة السياسية الراهنة. وقال الكاتب الكردي عبدالله كوفلي "البرنامج الإصلاحي الذي أعلنته حكومة العبادي، ودعمه الشارع المتلهف إلى الإصلاحات، كان يمثل حلولا وقتية لما يعانيه العراق، وهو رد فعل لما يواجهه العبادي من صراع وتحد داخل حزبه مع غريمه المالكي الذي يحكم العراق من خلف الستار". وأشار كوفلي إلى أن الأزمة انتقلت من إطار الحزب الحاكم إلى الحكومة، وبعد ذلك لم تثمر نتائجها لتمتد إلى أروقة مجلس النواب باعتصام مجموعة منهم والقيام ب"انقلاب أبيض" على الهيئة الرئاسية، بحجج وبراهين مختلفة وترشيح النائب الأكبر سنا لإدارة الجلسة الأولى. نصف مليون قتيل بعد مرور أكثر من 13 عاما على الإطاحة بالنظام السابق، فقد العراقيون نحو نصف مليون شخص بين قتيل وجريح جراء أعمال العنف، وما زالت محافظة نينوى وكذلك مدينة الفلوجة تحت سيطرة تنظيم داعش. ودفعت الاضطرابات المزمنة في كل مناحي الحياة، مئات الشباب إلى تنظيم تظاهرات يوم الجمعة من كل أسبوع في ساحة التحرير، مطالبين بدولة مدنية، محملين النخب السياسية مسؤولية اندلاع الأزمات في البلاد. ويأتي ذلك في وقت لا تزال مشاريع القوانين المعطلة مطروحة على طاولة مجلس النواب العراقي، بعد أن فشل في تمريرها خلال الدورات التشريعية السابقة. وأوضح مقرر المجلس عماد يوحنا، إلى "الوطن"، أن قوانين مجلس قيادة الثورة والسلطة التشريعية في زمن النظام السابق ما زالت سارية المفعول، إضافة إلى عشرات القرارات التي اتخذها الحاكم المدني السابق، بول بريمر، عندما كان صاحب القرار الأول في العراق، ومنها قرارات اجتثاث حزب البعث المنحل، ومصادرة ممتلكات المسؤولين السابقين، وأخرى تتعلق بتشكيل المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى. استبعاد الحلول بدا عضو مجلس النواب المستقل، مهدي الحافظ، متشائما حين استبعد في حديث إلى "الوطن" إمكانية تحقيق الإصلاح، لرفض الأطراف المتنفذة التخلي عن مصالحها، وقال إن سلطة التوافقات السياسية تعلو على الدستور، وتكبل حركة الحكومة، فضلا عن غياب الاتفاق تحت قبة البرلمان حول القوانين المصيرية المتعلقة بتنظيم الحياة السياسية في العراق، موضحا أن أسباب استمرار الأزمات السياسية يعود إلى عوامل تفرضها طبيعة المجتمع، بتنوعاته الدينية والمذهبية والقومية. وأكد أنه لا يمكن التغلب على المشكلات الراهنة إلا بروح وطنية، تقدم مصالح البلد على المكاسب الفئوية والطائفية، وهي مفقودة تماما من خلال تجربة امتدت أكثر من عشر سنوات. حسب قوله وأردف "الحلول عقيمة، والبلد تهزه المخاوف، وانعدام الخدمات، وتخلخل الوضع الأمني بين حين وآخر، وكل ذلك من أجل الاحتفاظ بقدر أكبر من السلطة"، داعيا القوى الفاعلة في المجتمع من منظمات وقادة رأي إلى تشخيص الأسباب الحقيقية لاندلاع الأزمات، بهدف الوصول إلى حلول ناجعة. تحديات عراقية الفشل يلاحق العبادي خلافات تشل البرلمان أزمات اقتصادية متفاقمة طغيان المحسوبية والطائفية التقسيم يهدد الوحدة الكتل ترفض الإصلاح إيران تتحكم بالدولة مواقف أميركية سلبية عدم محاسبة الفاسدين تعثر تكوين حكومة وحدة