في حين لعبت بعض المجلات الثقافية والأدبية السعودية التي برزت في ثمانينات القرن المنصرم، أو ما عرف نقديا ب"مرحلة الحداثة" دورا كبيرا في نشر إبداعات كثيرة لشعراء وقاصين وروائيين كثر، أعادت "الوطن" ذاكرة عدد من رموز إعلام تلك المرحلة، إلى الوراء لاستحضار أبرز العوامل المؤثرة في الإعلام الثقافي في تلك المرحلة، وحاولت البحث في أسباب اختفاء الكثير من المجلات والإصدارات الثقافية التي كانت تمثل ساحة نقاش كبيرة بين عدد من التيارات. واليوم" نبدأ مع الشاعر علي الدميني ومجلة "النص الجديد". الحداثة ومجلة النص الجديد الحداثة الأدبية في ساحتنا الثقافية لم يتم الانشغال بها أو الاشتغال عليها، في فترة زمنية قريبة أو قصيرة.. ذلك أن النزوع إلى التحديث والحداثة قد بدأت ملامحه المبكرة بكسر عمود الشعر وتبني خيار الشعر الحر جزئياً لدى بعض الرواد وأهمهم محمد حسن عواد منذ عام 1924م. ولكنه بقي كمحاولات قليلة ومعزولة عن القدرة على التأثير على الذاكرة الشعرية القديمة المهيمنة على الذائقة والذهنية العربية. ولعل أهم البدايات التأسيسية للاشتغال على إنتاج نص شعري ينتمي إلى الحداثة الشعرية في مستوياتها الأولى قد بدأ منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم مع غازي القصيبي ومحمد العلي. أما خلال مرحلة السبعينيات فقد حفلت الصحافة الأدبية في الرياض ومجلة اليمامة وفي صحف عكاظ والجزيرة وجريدة اليوم عبر ملحقها الشهير "المربد"، بنتاج مختلف في الشعر والقصة القصيرة والقراءات النقدية، حيث تطور المنحى الحداثي للنص من الشكلانية البسيطة إلى المضمون والرؤية حتى بلغ مرحلة التميز مع منتصف الثمانينات على أيدي عدد كبير من الشعراء وكتاب القصة والنقاد المتسلحين بالمناهج النقدية الحداثية. وخلال تلك المرحلة لا يمكن إغفال جهود بعض الجامعات والأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون.
نشاط الصحوة توّج الصحويون نشاطهم بممارسة ضغوطهم ضد تطور المجتمع ومحاربة الثقافة والتيار الحداثي من خلال شبكات التحزب في ظل التساهل أو الموافقة الضمنية من كثير من المؤسسات الرسمية كالجامعات والجوامع والأندية الأدبية وسواها. وحين أصدروا "مانفيستو" التكفير في كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام"، أعلنوا عن البدء في أولى معاركهم بتكفير تيار الحداثة،. وحين كتب البعض رداً على جهل المؤلف وتجنياته أوعزت وزارة الإعلام للصحف بعدم نشر أي رد على الكتاب، بينما سمحت لمؤلفه بتقديم الندوات في الجامعات والمساجد وحتى الأندية الرياضية!! لذا فقد تأثرت الملحقات والأندية الأدبية بهذا الغبار السام، وضيّقت الخناق على مبدعي وكتّاب الحداثة من داخل الوطن وخارجه، منذ عام 1988م، وحتى عدة سنوات بعد ذلك. تعدد الأصوات والمجلة تميزت ببعض الخصائص منها: أن تكون مظلّةً أدبية وثقافية واسعة لتعبر عن كتّاب الحداثة في المملكة، ولذلك استطاعت أن تضمّ في نخبة مؤسسيها الكثير من الأسماء الفاعلة في حياتنا الأدبية والثقافية، وحفل عددها الأول بحوار ثقافي هام مع "أبو الحداثة"، الأستاذ محمد العلي. حرصت على أن تكون منبراً تعددياً داخل خندق الحداثة يؤمن بحق الاختلاف وروح الحوار، ولذا ضمّت هيئة التحرير في مرحلتها الثانية تركي الحمد وفوزية أبو خالد وسعاد المانع وفوزية البكر، إلى جانب عبد الله الغذامي وسعيد السريحي ومعجب الزهراني وعبدالله المعيقل وميجان الرويلي وسواهم.
تتويج لجهود سابقة في ذلك المناخ المعتم، كنت أفكر مع بعض الأصدقاء حول إمكانية إصدار مجلة أدبية من خارج المملكة لتجاوز الحصار الثقافي ضد الحداثة، والذي كانت الكثير من الأطر الرسمية متماهية فيه مع تيار الصحوة. بيد أننا لم ننجز شيئاً في هذا السياق حتى فاجأني الشاعر عبد الله الخشرمي بمهاتفة يخبرني فيها بأنه ينوي إصدار مجلة أدبية عن مؤسسته الصحفية، من خارج الوطن، وأنه قد حصل على ترخيص رسمي لها من قبرص. سعدت بالفكرة وطلبت منه أن نتشاور مع بعض أبرز النقاد والمبدعين في المملكة، لكي تكون المجلة منبراً لحراكهم ورؤيتهم الحداثية. وبرفقته عقدنا عدداً من اللقاءات لبلورة الفكرة. لذلك فإن المجلة لم تتحمل هموم بدايات بيئة الحداثة في واقعنا الثقافي منذ أواخر الستينيات حتى ذلك الزمن، وإنما جاءت تتويجاً لجهودٍ طويلة.
علاقة المجلة بالناشر سأكتفي هنا بنقل الفقرة التالية من نظام المجلة الداخلي، المنشور في عددها الخامس الصادر في أبريل من عام 1996، والذي يحدّد بوضوح تلك العلاقة: " تسجل المجلة بإعزاز تقديرها الخاص للأستاذ عبد الله الخشرمي صاحب الفكرة الأساسية لإصدار مجلة أدبية مستقلة عن دار الخشرمي، ودعمه المالي لها وتؤكد في نفس الوقت أن المجلة مشروع أدبي حضاري يخدم الساحة الأدبية في بلادنا، وأنها أرض مشتركة لجميع كتّاب النص الجديد. وحيث إن دار الخشرمي للنشر قد حصلت على ترخيص لإصدار مجلة أدبية من قبرص، وتوفيراً للوقت وللجهد الإداري والمالي المطلوب للحصول على هذا الترخيص باسم هيئة تحرير المجلة، فقد وضع الأستاذ عبدالله الخشرمي الترخيص المنجز برسم تصرف هيئة التحرير للاستفادة من هذا الإنجاز، على أن يتم تحرير اتفاق خطي مفصّل في الملحق رقم (1) بين هيئة التحرير و"الدار" يوضح أن مشروع المجلة أصبح ملكاً لكتّاب النص الجديد في المملكة ولم يعد ملكاً لدار الخشرمي وحدها، وليس لها الحق في التصّرف في هذا الترخيص أو إلغائه ألا بموافقة هيئة التحرير. لماذا توقفت؟ توقف "النص الجديد" يعود إلى عدد من العوامل، أهمها: تعافي الملحقات الثقافية من سطوة الصحوة، وعودتها إلى الاهتمام بالنتاج الحداثي، بعد أن اتضح للجهات المسؤولة مخاطر برامج الصحوة واستهدافاتها. بروز الكثير من العوائق المالية والإدارية بما حال دون تطوير المجلة واستمراريتها. خفوت جذوة الحماس في وسط المؤسسين وهيئة التحرير، لذا توقفت المجلة تلقائياً، لا سيما بعد انتقال عملي في البنك الأهلي إلى جدة، وانشغالي بمهامي الوظيفية الجديدة هناك، حيث كنت الأكثر حماساً واهتماما بصدورها، من حيث الإشراف على الطباعة والتصحيح والنشر والتوزيع من بيتي في الظهران.