عندما انطلقت حركة الحداثة في المشهد الثقافي المحلي إبان حقبة الثمانينيات الميلادية، كان من أبرز سماتها وعوامل فعاليتها وتأثيرها أنها انطلقت كلاً متكاملاً، مشتملة على مجمل العناصر التي يتطلبها أي تيار ليحقق فعاليته وحضوره وقبل ذلك اشتراطات وجوده، ولم تكن الحداثة مجرد أصوات جديدة تقدم منجزاً إبداعياً خارجاً عن أعراف السائد والنمطي في مشهد الثقافة آنذاك، وفق رؤية جديدة لا تنسجم مع الرؤى القديمة أو المألوفة، ولا تؤول إلى ذات المرجعيات السالفة. الحقيقة أن الحداثة كانت منهجاً ذا رؤية تغييرية شاملة لم يكن سريان فعاليتها الانقلابية ليتوقف عند حدود الأدبي أو الفكري، بل كان يتضمن في أجندته إعادة رسم كل الخرائط وفق حدوده ومقاييسه هو، لولا أن التوقيت ومعطيات المشهد كانت ترسم بدورها خارطة الفناء التي أطبقت حدودها لاحقاً على كل الحراك الحداثي في مرحلة ملتهبة لا تتكرر من عمر المشهد الثقافي، لا تزال سجالاتها الساخنة وأحداثها تحتاج إلى قراءة معمقة وفهم أكثر شمولاً، على الرغم من كل ما كتب عن تلك المرحلة قديماً وحديثاً، فعلى الرغم من التغييرية الشاملة للتيار الحداثي، إلا أن تمظهرات وجوده لم تتجاوز التجربة الإبداعية الأدبية للجيل الشاب آنذاك، وما نما على حواف التجربة كذلك من الممارسات النقدية التي كانت بدورها ضرورة حياة لذلك الإبداع الجديد وإن كان هذا ليس مقام الإفاضة في عوامل تمحور التجربة الحداثية في المنجز الإبداعي والنقدي فقط، إلا أن التزامن المدهش بين الإبداعي والنقدي الذي جسد تجربة فريدة من نوعها أحسب أنها لم تكن مسبوقة في حينها ولم تتكرر لاحقاً، ذلك التزامن وتلك المواكبة الحثيثة المتناغمة هي ما أشرنا إليه من أن حداثة المشهد الثقافي انطلقت كلاً متكاملاً تجمع في تضاعيفها الإبداع والنقد، وتركن إلى رؤية ناظمة لكل معطيات ذلك الحراك ومنجزه. وإذا كان حاضر التجربة الإبداعية المحلية يضج بالشكوى إزاء تعالي الممارسة النقدية وتشاغلها بالنظرية عن حقيقة الفعل النقدي، وإذا كانت مرحلة ما قبل الحداثة لا تسجل شيئاً لافتاً في حميمية العلاقة بين النقد والإبداع، فإنه يمكن على ضوء ذلك القول إن حقبة الحداثة قد سجلت أنموذجاً مختلفاً وفريداً لما يفترض أن تكون عليه العلاقة بين المبدع والناقد، حين يسيران معا في خطين متوازيين، ومتلازمين من جهة التوقيت بحيث لا يتخلف النقد عن مسايرة ومواكبة الإبداع، ولا يتوقف الإبداع عن ضخ وقود التجربة المحفز بدوره للحضور النقدي الفعال، مع الأخذ في الاعتبار أن المبدع لا يكتب لأجل الناقد، ولكنَّ مزيداً من الإبداع يستدعي بالضرورة مزيداً من المراس النقدي، وهذا بطبيعة الحال في مشهد لا تتخلف اشتراطات موضوعيته، وانسجامه مع أعراف التجارب الإبداعية الناضجة التي لا تتخلف أركانها، ولا يضطرب شرط من شروط وجودها، على النقيض تماماً من واقع مشهدنا الثقافي والإبداعي الحالي. ولعل تزامن الإبداعي والنقدي في فترة الحداثة لم يكن تمسكاً بأهداب الموضوعية التي تتطلبها التجربة، بقدر ما كان ضرورة حياة تتطلبها التجربة الجديدة كلياً، التي تجعل كلاً من المبدع والناقد معاً بحاجة دائمة وملحة للآخر، فالمبدع الذي يقدِّم تجربة نصية جديدة كلياً، وصادمة بخروجها السافر على معايير ذائقة التلقي وموروثها الضارب في عمق التاريخ، يستشعر حاجته إلى مهاد نقدي يلطف حدة الصدمة المتوقعة لدى القارئ، ويشغل دور الوسيط في البوح بما انطوت عليه مغاليق التجربة من المضامين التي تلفعت عباءة الغموض، وأستاراً ثقيلة من المجاز، يستوي في ذلك الشعر والسرد معاً، ويقيم المبررات التي تشرعن التجربة، وتجهد في ربطها إلى سلاسل التطور والتحول المنطقي في حيوات التجارب، بل وتغلو أحياناً إلى اعتبارها الأصل أو المفترض في طبيعة الممارسة الإبداعية، وتقلل كثيراً من شأن كل ما تكرس عبر الزمن من آليات البوح وقوالب التعبير ومضامين التجارب باعتبارها لا تجسد روح العمل الإبداعي وفق الرؤية الحداثية وعلى ضفة النقد كانت الحاجة أشد إلحاحاً وأكثر فاقة، فالنقد آنذاك لم يعد مجرد ممارسة تؤطرها احتمالات النص وحمولاته، بل ربما ذهب إلى أبعد من ذلك وأعمق، فاتخذ صفة التنظير والتقعيد لما وراء النص من مضامين الرؤى في إطارها الأوسع والأشمل من محيط الإبداع أو النقد، الرؤيا التي تهز الحياة من أكتافها كما عبر أحدهم إبان تلك الفترة، وبالتالي فلم تكن النصوص في كثير من تجليات الفعل النقدي أكثر من أقنية مجازية تعبر من خلالها الرؤى والمضامين المستجدة والخطيرة مدّرعة المجاز الفضفاض، وحلل المعاني المستدقة وربما الطلسمية، مالئة فضاء الاحتمالات الشاسع الذي يطوق النصوص، بما تحتمله حينا، ومالا تحتمله في كثير من الأحيان. وإن كان ولع الرؤيا ذاك هو الباعث على ملاحقة المستجد من إبداعات جيل الحداثة لدى رموز المشهد وأقطابه من المنظرين والمنصرفين كليا إلى الاشتغال النقدي الخالص الذي يتوخى التأسيس للتيار والتقعيد له، فإن طبيعة التجربة وجدتها وحراكها المثير قد تضمن من الإغراء ما يكفي لإثارة شهية الناقد بغض النظر عن الدافع الرؤيوي، مما يمكن اعتباره خالصا لوجه النقد وإثارات النصوص ولذاذة التجريب النقدي في ظلال نصوص أكثر إثارة بما تشكله من اختلاف واستفزاز عالي الوتيرة للحاسة النقدية. وحين ننفي بواعث المثالية عن ذلك الانقطاع النقدي للتجربة الإبداعية الحداثية في تلك الفترة، فإننا لا نعدم شاهد إثبات لذلك مما استجد لاحقاً بعد انحسار المد الحداثي من انصراف نقاد المرحلة التام عن الإبداع وإغراقهم في ملاحقة النظريات، تاركين فراغاً شاسعاً لا يتبين حجمه إلا لمن أمكن له الاطلاع على حقيقة الحضور الصاخب لتلك الأسماء في مشهد الممارسة النقدية إبان فورة الحداثة. ليس ذلك فحسب بل وصل الأمر حد إلغاء النقد الأدبي بالكلية كما لدى الغذامي واستبداله بمشروعه في النقد الثقافي ولعل إخفاق المشروع الحداثي وقصوره دون غاياته التي كان يترامى إلى تحقيقها هو المسؤول عن ذلك الفتور في الممارسة النقدية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلعل قناعة ما قد تسربت إلى نقاد حقبة الحداثة أن التجربة الإبداعية الحداثية لم تعد صادمة بالقدر الذي كانت عليه في أول انبثاق لها، وأن الذائقة لم تعد تتعامل بالنفور ذاته الذي كانت تجابه به المنجز الحداثي في بداياته، بدليل أن بعض التجارب الإبداعية إن كان في حقول الشعر أوالسرد قد تصدرت قائمة مفضلة الذائقة لاحقاً، وجرى الاحتفاء بها خارج زمن ولادتها أكثر بكثير مما كان عليه الحال حين كانت تلك التجارب تتخلق للمرة الأولى وتتلمس طريقها نحو الضوء في خضم أعاصير البدايات التي انطفأ على إثرها كثير من الشموع التي كان يمكن لها أن تكون مشاريع ضوء لافتة، فكانت وقود المرحلة، وحطب الصراع الذي آل إلى رماد تذروه رياح النسيان. ونظراً لحداثة تلك التجربة في زمن نشوئها الأول، ولتجاوزها كثيراً مما اعتاده التلقي وتدجنت به الذائقة، وللموقف المضاد الذي جوبهت به على عدة مستويات، فقد انحصر التعامل مع معطياتها الإبداعية والنقدية في عدد قليل من المشتغلين بالهم الثقافي آنذاك، ممن أسلموا وجوههم لرياح التجديد، وأقلامهم لخطاب الحداثة الذي تشكل عبر مجموعة قليلة وأسماء بعينها في حقول النقد والإبداع وإذا كانت أسماء محمد الثبيتي، عبدالله الصيخان، علي الدميني…، ونظيراتها من الأسماء قد جسدت مشهد الإبداع في تلك المرحلة، فقد كانت إبداعات تلك الأسماء هي حافز الحضور النقدي لأسماء مثل سعيد السريحي، عبدالله الغذمي، سعد البازعي وغيرهم ممن اتخذوا المنجز الإبداعي لتلك الأسماء مادة لاشتغالاتهم النقدية الحثيثة في وقتها، وبالنظر إلى ما أشرنا إليه من محدودية التعاطي القرائي مع التجربة الحداثية في بداياتها، وكذلك ندرة الأسماء القادرة على تقديم تجارب إبداعية متفردة، فقد كان من الطبيعي لأصحاب تلك التجارب ذات التميز والاختلاف أن ينالوا الحيز الأكبر من مساحات الاهتمام النقدي في تلك الفترة، ليكون أكثر التداول النقدي منصباً على قائمة غير موسعة من مبدعي الانبثاقة الحداثية الأولى، الذين تقاطعت حول منجزهم دراسات وقراءات وأطروحات شكلت مدونة نقدية خصبة تضمنت أنموذجاً مختلفاً للمواكبة، وتزامن الإبداعي والنقدي شكل أظهر خصائص مشهد الثمانينيات، ثم لم يتكرر لاحقاَ!.