شكل مبدأ تجريم الطائفية هاجسا لدى كثير من المثقفين والمهتمين بالشأن السياسي في المجتمع السعودي، وذلك منذ فترة طويلة، وبات اليوم مطلبا وطنيا لمكون عريض من كل أطياف المجتمع بهدف حماية كيان الدولة من أسباب الفتنة، وانقسام المجتمع، ونشوء خلافات دائمة تؤسس لحالة من الكراهية المستمرة، ما يقوّض أسس التنمية المستدامة، ويزعزع الاستقرار، ويضعف الاقتصاد، ويزيد من تعميق هوّة الخلاف المذهبي، ما يجعل المجتمع يتحرك في دائرة من النزاعات الطائفية التي لا تحمد عقباها. وتشكل الخلافات الطائفية بيئة خصبة لتفكك المجتمع، ما يجعله هدفا للاختراق من التنظيمات الإرهابية. ودعا أستاذ الإعلام بجامعة الدمام الدكتور عايض الشهراني إلى وجوب التدخل السريع لسن قانون يجرّم الطائفية والعنصرية باعتبارهما أخطر الأمراض التي تهدم حضارات الأمم، وتقوّض دعائم التنمية، معيدا أسباب حوادث الإرهاب في المملكة، ومنها ما حدث أخيرا في المنطقة الشرقية إلى التأجيج الطائفي الذي استهدف استباحة الدماء المعصومة، وانتهاك حرمة بيوت الله. ويؤكد الدكتور الشهراني أن اعتماد ذلك يرتكز على هيئة كبار العلماء باعتبارها المرجع الديني الأول المعني بتسيير حياة المجتمع، كما يجب على وزارة الشؤون الإسلامية اتخاذ إجراءات عملية لتنظيم الخطاب الديني في خطب الجمعة والمنابر، بالتزامن مع سن آلية وقانون إعلامي حازم وصارم من وزارة الثقافة والإعلام ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بوصفها المسؤولة عن فضاء الإنترنت والتواصل الإعلامي والاجتماعي الإلكتروني. ويرى الشهراني أن الإعلام لم يعد حصرا على الأجهزة والمؤسسات الرسمية بل أصبح إعلام المجتمع الذي ينطلق للعالم من فضاء الإنترنت، ومن هنا تبدأ الخطورة، حيث تبرز وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر والفيسبوك والانستجرام واليوتيوب وغيرها) بشكل مثير. ويضيف الدكتور الشهراني أن الطائفية بدأت تستفحل مستغلةً ذلك الفضاء، مستهدفة تقويض وهدم كثير من ثوابت العيش المشترك للمجتمع، "فالطائفية والعنصرية وباءان فتّاكان يستغلهما الجهلة في الداخل والحاقدون في الخارج لتمزيق مجتمعنا، الأمر الذي يستوجب على الجهات المسؤولة كافة في الدولة مجابهتهما ومحاربتهما من خلال سن قانون يجرّم الطائفية والعنصرية"، مشيراً إلى أن الطائفية والعنصرية تنطلقان من كراهية الآخر، وتنتهيان بإلغائه والعمل على الانتقام منه من خلال القتل والتدمير والتكفير والسخرية، ما ينعكس على المجتمع وكيان الدولة بحوادث دامية، تثير البغضاء والكراهية، وتنشر مفاهيم الانتقام، وتضع المجتمع في فلك ثقافة التخلّف، وهدر موارد الدولة، والتشكيك في الولاء ما يضعف روح الانتماء للأرض والثوابت (الدين والوطن). حرب مضادة ويضيف الشهراني أنه "يجب على الجهات المسؤولة بدء حرب مضادة سريعة ضد الطائفية والعنصرية، تسبق مرحلة إصدار قانون تجريم الطائفية والعنصرية، وتستهدف تعزيز الولاء والانتماء للدين والملك والوطن، وتعتمد تنقية الأجواء الناتجة عن حادثة القديح، مستثمرة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كافة وبصورة رسمية، ما يقوّي ثقة المجتمع في مؤسساته، ويُحبط مخططات الأعداء، ويزيد من عوامل قوة اللحمة الوطنية، كما يجب أن يكون الحوار أهم الوسائل التي تستهدف تعزيز الوحدة والتقارب، وينبذ الفرقة والتشرذم، ما يؤدي إلى تعزيز قيم المواطنة في ظل ثوابت الدولة". وحذر الشهراني من أي خلل في التركيبة المجتمعية في أي دولة، لأنه قد يؤدي إلى الشعور بالتهميش، وعدم المساواة، ما يُضعف إحساس المواطنة، الأمر الذي يوّلد الحقد والكراهية، وينتج عنه وهن وتصدُع البنيان المجتمعي، وتجد الكيانات الإرهابية من هذا الوضع المجتمعي المتفكك والمتشتت بيئة خصبة، بل ومثالية، لارتكاب الأعمال الإرهابية وصولاً إلى بسط نفوذها على تلك المجتمعات، ويقول "الاستسلام للطائفية يسهم في قيام ما يُعرف ب(الإرهاب الطائفي) الذي قد تكون الخسائر فيه فادحة في الممتلكات والأرواح، وزعزعة أمن المجتمعات واستقرارها، بما في ذلك ضرب الاستثمار والتقدم، ما يشكل خطرا مُحدقا على مسيرة التنمية التي تسهم في دعم اقتصاد الدول واستقرارها المالي، وإيجاد سبل المعيشة الرغيدة للمجتمع، حيث تنشغل الدول التي تعاني من (الإرهاب الطائفي) بتخصيص ميزانيات وضخ أموال تستهدف التصدي للأعمال التخريبية وأعمال الشغب الناتجة عن الطائفية ومواجهتها، إضافة إلى ما تنفقه في إعادة إعمار ما أتت عليه الأعمال التخريبية لمثيري الفتنة الطائفية، كما تعاني هذه الدول من فقد الثقة في جذب الاستثمار الأجنبي الذي يرفض المجازفة بالمخاطرة بضخ رؤوس أموال في هذه الدول خِشية فقدانها نتيجة الأوضاع غير المستقرة، وعدم قدرة الحكومات على السيطرة على مثيري الفتن وإيجاد التعايش الطائفي السلمي الذي يحدد انتماءه تحت مظلة هذه الحكومات". هوية جامعة من جانبه قال الدكتور توفيق السيف - مهتم بقضايا التنمية السياسية - "يجب على السعوديين الإيمان بأن الهوية الوطنية هي الهوية الجامعة التي لها الأولوية في حياتهم، والتعاطي من خلال هذا المفهوم مع فعاليات الحياة كافة، ومن هنا نوجد مظلة عامة نستطيع التحرك تحتها، ووفق أنظمتها التي تضمن الحقوق والواجبات للمواطنين على حد سواء". وأردف "الطائفية التي ظهرت على السطح ليس الخلاف المذهبي هو السبب الرئيس فيها، فالخلاف السني الشيعي حقيقة واقعة لا يمكن إلغاؤها بجرّة قلم، ولكنه خلاف يمكن تهذيبه وتقويمه، وجعله غير مضر، وذلك بتحييده وإخراجه من المسار السياسي، من خلال نزع المضمون السياسي عن الهوية الدينية والمذهبية، ولكي يتحقق هذا الأمر يلزمنا العمل عبر 3 مسارات، الأول: هو القانون الذي يمنع تحويل الهوية الفرعية (دين، مذهب، قبيلة، مناطقية ..الخ) إلى هوية سياسية، ويسن الأنظمة للمحاسبة عليها، وخطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- بمناسبة شهر رمضان الكريم يخدم هذا المسار، وينسجم معه. حيث يسعى إلى الحيلولة دون شحن الهوية المذهبية بمضمون سياسي. المسار الثاني هو المسار الثقافي الذي يستهدف غرس حقيقة أن الوطن هو المكان الأمثل والوحيد الذي يستطيع الإنسان تحقيق طموحاته وآماله، ونجاحه فيه، فالوطن هو الخير والأمل والمستقبل فعندما يشعر الفرد أنه قادر على النجاح في حياته، بالاعتماد على جهده الخاص ومبادراته الذاتية، لأن الفرص التي تولدها السوق متاحة للجميع، أي أن القانون يضمن لكل الأفراد قابلية الاستفادة من الفرص المتاحة في المجال العام. فتساوي الناس في الفرص يولد في نفوسهم إيمانا عميقا بالمجتمع الوطني، وإيمانا بأنهم ليسوا ضائعين في الحياة، حتى لو كانوا بمفردهم. والمسار الثالث هو المسار الاجتماعي ويستهدف إعداد برامج تستهدف دمج كل أطياف المجتمع في بعضها، من السنة والشيعة وغيرهما ليتحقق التقارب والتعارف عن قرب لاكتشاف حقيقة كل من الطرفين للآخر، وتبدأ مرحلة تعايش حقيقي لفعاليات حياتية يومية أو شبه يومية، لتغيير الصورة الذهنية لكل من الفريقين عن الآخر". أرضية نتنة في حين قال أستاذ فلسفة النقد التاريخي بجامعة الطائف، عضو مجلس دارة الملك عبدالعزيز، رئيس مركز تاريخ الطائف الدكتور عائض الزهراني مخاطبا السعوديين كافة "أيها السعوديون العاشقون والمرتوون بماء الشوق والتوق لأوطانهم، القاطنون على ضفافه، وفي عمق تضاريسه وحوافه، انبذوا التعصب والطائفية، والمؤامرات الداخلية، والأجندات الخارجية، فهي الأرضية النتنة التي تدمر الأوطان، وتستنبت الفتن، وتثير الحقد، وتذيب الود، وتطفئ الوعي، وتظهر الغي عبر عقليتها المنغلقة الجافة التي تنشرها في النسيج الاجتماعي للوطن، ولهذا لابد أن نكون مجتمعا متحضرا على المستوى الثقافي والفكري والحضاري التي تس ود فيها أخلاق التسامح، والتجانس، والتعايش، والتكاتف، والوعي الراقي، فما أحوجنا إلى لغة أنيقة راقية تؤمن بالاختلافات، وتكفر بالخلافات، لنرتقي في حواراتنا الصاعدة بمستوى الطرح والفكر". تجفيف المنابع في حين يرى أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة الملك سعود سابقا، الدكتور عبدالله الحريري وجوب تجفيف منابع التحريض على العنف والإرهاب في المجتمع باعتبارها مسؤولة عما حدث في مجسد الإمام علي بن أبي طالب في القطيف ومسجد الإمام الحسين بالدمام. وأوضح أن "منفّذي الحادثتين شخصيات إرهابية تتسم باضطراب الشخصية المصنّف عالميا بالشخصية (السيكوباتية)، وتعاني هذه الشخصية من برود عاطفي، والقدرة على التخطيط الإجرامي، وتعاني من خلل في التفكير، كما يعاني هؤلاء من اضطرابات نفسية كثيرة، وتستثمرهم المنظمات الإرهابية وأجهزة الاستخبارات الدولية نظرا لما لديها من المعرفة العلمية بسمات تلك الشخصيات، واستعدادها للانخراط في تنفيذ مخططاتهم الإجرامية المضادة للمجتمع والإنسانية". ويضيف "تنمو هذه الشخصيات في البيئة الحاضنة والمحرّضة على الإرهاب نظرا لما لديها من استعداد نفسي لتقبّل وتبنّي الأفكار العنصرية، لأنها تتمتع بكم هائل من الضلالات المرضية، فهي قادرة على التفاعل مع أي تحريض صادر من وسائل التواصل والاتصال، وتنفذ اعتداءاتها على المجتمع، بكافة الوسائل سواء بالكلام أو الفعل، وتتجاوز إلى العنف الجسدي والإرهاب". ويوضّح الحريري أن "هؤلاء الإرهابيين يعانون من اضطراب لا يمكن علاجه إلا بالعقاب القانوني والشرعي، وقد يُظهر الإرهابي منهم أنه مستفيد من المناصحة والتوجيه، بهدف تجنّب العقاب، والخروج من مأزق السجن، حتى لو حُبس أكثر من مرة. وحادثة القطيف تصنّف ضمن هذا الإطار بلغة علمية صرفة". ويتابع "يعاني مجتمعنا من التحريض المباشر وغير المباشر على العنف المنتهك لحقوق ومستوى الحريات للآخرين، وللقضاء على هذا النوع من الإرهابيين يجب تطبيق القانون، ومواد النظام الأساسي للحكم في السعودية التي كفلت لجميع المواطنين الحريات والحقوق، فالمواطنون سواسية، الأمر الذي يجب تفعيله عمليا بتطبيق القانون الذي يضمن قواسم العيش المشترك للجميع بكرامة وحرية. انطلاقا من قاعدة (الوطن للجميع) التي يجب الإيمان بها وتفعيلها، ولدينا في النظام الأساسي والقانون والشرع ما يضمن تطبيقها. فالمجتمعات المتحضّرة يتعايش أفرادها مع بعضهم تحت مظلة القانون، فيبنون وطنهم، وينتجون، ويعيشون في دائرة من الحب والانتماء، والاحترام المتبادل. ما يحتم على الدولة تطبيق القانون بصرامة تامة حماية للمجتمع من الإرهاب والمحرضين عليه، كما يجب تفعيل التطبيق لقانون الجرائم المعلوماتية على كل من يحرّض للعنف أو الإرهاب أو يدعو للعنصرية أو الطائفية والتفرقة، وكل ما يدعو لانتهاك وتجاوز حريات الآخرين".