• تحدثتْ غمازتان في خديها حين استقرت دمعتان فيهما كما لو أن حبتين من الكريستال وقعتا في بحيرة مليئة بزهر الجلنار. تماما، كما لو أنك اقتطعت جزءا من الحياة ووضعتها على الورق، تلك هي الرواية. أما كاتب الرواية، فهو ذاك الشخص الذي يتربص بالناس مثل قاطع طريق محترف، يسلب المارة حركاتهم وسلوكهم، وقبل أن يقدم على فعلته، يراقبهم مليا، يتحرى تفاصيل حياتهم، ويعرف خباياهم، حتى لا تفشل خطته في السطو عليهم، ومن ثم يعيد إنتاج "غلته" على الورق. الرواية هي وطنك الموقت إن كنت في الغربة، وطن أنت زعيمه، رعيتك الحروف والكلمات، تصدر فيه القرارات التي تشاء، ويتبعك جمهور من القراء هم حراس كلمتك، والمؤمنون بأفكارك. الروائيون نوعان: نوع مصور فوتوجرافي يلتقط الأحداث والشخصيات أمامه دون تدخل منه، فتبدو الصورة -ربما- جميلة ولكنها بلا حراك، جامدة كقطعة ثلج في جبل قطبي، تبهرك نصاعتها ولكنها تجمد مشاعرك ببرودتها. النوع الثاني: هو الروائي الرسام الذي يلتقط المشهد نفسه الذي التقطه المصور بعدسته، ولكنه يضيف إليه لمسات مبهرة، إنه يعيد إحياء الجمادات بضربات استفزازية من ريشته، يقنعك بأن الشجر ليس بالضرورة أن يكون أخضر، ولا السماء زرقاء، بل يمنحك خيارات أخرى للألوان، تماما كما يفعل أصحاب المدرسة الانطباعية في الفن، فهم يرون أن الأشياء المتجاورة تتبادل الألوان، فقد يستمد غصن شجرة لونا أبيض من زنبقة تنمو بجانبه. الروائي يهتم بأدق التفاصيل، له أكثر من عينين، فهو يبصر بعقله وقلبه، وحتى أصابعه تقرأ قبل وليس فقط تكتب. الكاتب المرهف تستهويه أشياء لا يلتفت إليها الإنسان العادي: رفة جناح فراشة، كسرة خبز يابسة في يد طفل جائع، رصاصة حمقاء في معركة، وكل الحالات الإنسانية مهمة للكاتب: المحبة الكراهية.. الجنون.. العقل..الوطن.. المنفى..الغربة.. والحياة على سوية واحدة مع الموت في جماليات السرد. ولكن ثمة متعة خفية لا يعرفها إلا السارد نفسه، تكمن حين يختلي مع شخوصه أثناء كتابة العمل، أو قرب الانتهاء منه، أو حتى بعد صدور الرواية، إذ تخرج الشخصيات من قمقم الورق، وتتجسد أمامه كأنها كائنات حية، من نبض ودفء، تتجسد أمامه كما رسمها، وتبدأ في الحديث معه، قد تعاتبه، وقد تشكره، وقد تناقشه بموضوعية عما فعله بها. شخصيا، خرجت لي إحدى شخصيات رواياتي في رواية "لقلبك تاج من فضة"، وكانت حالتها مزيجا من حزن وغضب، عاتبتني على أنني صورتها في العمل بصورة غير لائقة. قالت لي إنني أعرفها شخصيا، فلماذا شوهتها؟، واتهمتني بأنني لست منصفا، لأنني أدخلت النازع الشخصي من خلافنا برسم معالم الشخصية كي أجعل القراء يكرهونها. قالت لي ذلك، ثم توارت بين السطور من جديد، لكنني كلما جلست إلى مكتبي لأكتب، تظهر لي على شكل سحابة دخان من بخور في ليلة زفاف حزينة أُجبرت فيها العروس على عريسها. أبطال رواياتنا تعاقبنا أحيانا، وهذا ما حصل لي، ولكن في إحدى المرات التي خرجت بها هذه الشخصية من فانوس الورق، أمسكت بطيفها.. هذه المرة لم تنطق، بل تحدثتْ عنها غمازتان في خديها حين استقرت دمعتان فيهما كما لو أن حبتين من الكريستال وقعتا في بحيرة مليئة بزهر الجلنار. قالت الدمعتان ثرثرات صامتة سمعتها بقلبي، حاولت أن أستجمع كل طاقاتي الكتابية لأرد عليها، لكنني اكتشفت أن الروائي هو مبدع على الورق فقط، أما حين يواجه شخصياته التي أتعبها، فهو مجرد إنسان عادي لا يجيد سوى كلمة يرددها الجميع في لحظات الاعتذار: "آسف".